دهاليز للموتى.. أول رواية عن غزو الكويت

ادب و فن 01:53 PM - 2015-12-01
دهاليز للموتى بين الواقعية الغرائبية وموجة التجديد

دهاليز للموتى بين الواقعية الغرائبية وموجة التجديد

دهاليز للموتى بين الواقعية الغرائبية وموجة التجديد

القاصّ والناقد يوسف عبود جويعد

حافلات السفر الصدفية , قشر الرمان , اثبات ما حدث , برغي اصم , ما حدث , السنة القواقع ،اضافة لما حدث، ما سيحدث، ولادة الرمل، اظنه قد حدث، قواطع ليلية النيران، وقائع ما حدث ,شحاذة السحر المنفلق , صرخة الغرين , القصر هذه الممرات او المداخل التي يدعونا فيها الروائي حميد الربيعي لروايته دهاليز للموتى لكي نكون مع احداث الرواية التي وظف فيها خبرته في مجال الرواية لنرى قدراته الابداعية في مجال السرد فلم يكن نسيج الرواية طرحاً واقعياً خالياً من اللمسات الابداعية بل كان ينم عن قدرة الروائي باستخدام الموروث الشعبي والصور الاحيائية والرموز والدلالات التي طغت على واقع الحدث الروائي اضفت عليها نوعاً من السحر فلم يعد المتلقي بحاجة الى رواية سهلة الطرح بل انه يحتاج الى مبدع وروائي متمكن من ادواته في صناعة فن الروائي ليحلق معه في عوالم خلابة وساحرة مليئة بالالغاز والرموز فعبد الله الافطس هو ذاته الحاكم المستبد الذي جر البلاد الى ويلات وحروب والبرغي هو رمز يشير الى الاشارة التي من خلالها تم غزو الكويت عندما  الصق كتلة الحديد الصغيرة مع الكبيرة وورق التوت وظهور السيد مالك هذا السيد الجليل الذي هو محط احترام ومحبة الجميع في مضمون الرواية وبقائه طيلة احداث الرواية هذا فضلاً عن الاسرة التي كانت تسكن في قرية الخطيم في الكوت والتي يتواجد فيها السيد مالك فنحن داخل دوائر تبدأ صغيرة وتكبر فالعائلة التي كانت مكونة من الاب والاخوين والبنت وبسبب احداث البلاد وماجرى فيها خلال الحقب الزمنية المنصرمة فالوالد يموت في حريق ولم يصدق الصبي الصغير وفاة ابيه وظل يتوقع ظهوره وغياب الابن الاكبر الامر الذي دعا الصبي الصغير حمل مسؤولية اعالة اسرته لينتقل الى العاصمة بغداد ويعمل في الكرادة وتسكن الاسرة في بغداد الجديدة ويصف لنا الروائي بشكل فوتوغرافي جميل حياة بغداد القديمة وباص مصلحة الركاب ذات الطابقين والمقاعد الخشبية ودار السلام التي هي ساحة الاندلس الآن وحياة المواطن البغدادي واحداث الرواية لم تكن مقطوعة بل انها متصلة لسنين مضت هذه الاحداث هي الداثرة الصغيرة ثم تظهر دائرة اكبر فوقها حياة البلاد والامها وويلاتها وكوارثها ثم دائر ة اخرى تحيطها هي الموروث الشعبي ولم تكن الاحداث السردية للاسرة اساساً لمحور الرواية الا انها اداة يرى من خلالها المتلقي حياة الشعب الذي كان يدخل في الحروب مغلوباً على امره ليخرج فيدخل ثانية وبهذا فأن الروائي يضع امامنا حقيقة مهمة وهي اننا لانملك الارادة او الحرية او العيش بأمان بل اننا لانملك حياتنا انما نعيش للسلطة وحكامها هم يرسمون لنا مسار الحياة ( ارجعني الضابط النجدي وبي حسرة على ضياع التاريخ قبائل عبد الله الافطس لن ترحم ان عدت ما هو المخرج اذن ؟ انا معلق بين جيشين وحدودين , امعجزة تنقذني من الورطة ؟ ايتها الزوجة المحاصرة بقبائل الغزو والخائفة على مهاجر في طريق صحراوي احضري العدة اوراق خضراء وحناء ولا تنسي التراتيل هلمي الى البحر فالشاطي قريب وليكن القمر دليلك ) وهو وخلال احداث السرد يبقى لصيق للطقوس والمناسبات التي تبقى مع دورة الزمن وعندما ينقل لنا الطقوس الحسينية وايام عاشوراء فانه ياتي عليها ونحن نحسها لجميع ابناء الشعب وليس لفئة دون اخرى ولمعرفته وخبرته في مجال الرواية وقراءاته لروايات عالمية وجد ان المتلقي يحتاج الى سرد الرواية باسلوبها الفني الجميل مع مراعاة بقاء الموروث الشعبي كجزء مساعد في السرد ( لقد كان يا ما كان كما في الحكايات  خرافة تجر خرافة محافل صومعة سرية  دهاليز خفية تحت الارض  روايات عن جن غير مرئيين تتشابك باعاجيب غريبة مكونة نسيجا لن تتضح خيوطه الا بعد حين ) كما انه وزع مهمة سرد الاحداث للبطل الذي يظهر في المدخل ( انا سومر انشر المحبة على الثلاثة الاب السائر فوق الغيم او الناهض من القيعان الرجل الذي عرضه عريه كان ياخذني من يدي ويقعدني بجانب الاوجاع لاسمع طقطقة الجمر وهو يتفتت نارا زرقاء معطرة برائحة بخار زكية تفوح من القوري وتشد شمي ساعات في مقعدي ) تدور احداث الرواية في الكوت قرية المخطم وبغداد والبصرة والكويت وكما يصف لنا الروائي البارع غزو الكويت باسلوبه السحري  الممزوج بخليط من الصور الايحائية والرموز وخروجه عن السرد المباشر فانه يصل بنا الى نهاية الظلم والطغيان ( القوات الدولية تحاصر القبائل عبد الله يحاصر المدينة جنود الغزاة تحاصر الناس في البيوت حلقة تلو حلقة حتى يضيق علينا الخناق صارت الدور جحوراً مظلمة نلتحف جدرانها من الخوف يحيط بنا  الهلاك لامحالة انتهت الحكايات لنواجه مصيرنا المحتوم التسلية الليلية ماعادت مجدية شح الحديث وبتنا ننتظر المجهول القادم ) هكذا فاننا مع الروائي حميد الربيعي نطوف في سياحة ممتعة وسط روايته ذات الطرح الجديد والحديث والذي يشير الى ان موجة التجديد قادمة وان الروايات الجيدة تطرح رحلنا معه في مطاف ونحن نرى حياتنا وسط موجة من المناقضات.

 دهاليز للموتى... رواية تقانات وتشظّي
د. جاسم حسين الخالدي                                                
( دهاليز للموتى ) رواية حميد الربيعي الرابعة بعد ( سفر الثعابين ) و( وتعالى وجع مالك ) و(جدد موته مرتين)، حازت على ثناء النقاد والقراء معاً؛ لأنها وضعت حميد الربيعي على جادة الرواية ، وأخرجته من عوالم السرد القصصي، لتحط به في فضاء الرواية. مع الإشارة إلى أنّهُ  بقيَ في اطار " الميثولوجيا الشعبية " كما قرر مقدم الرواية.
بنى الربيعي روايته على ثيمة ، لطالما كانت محل خلاف بين الناس، المثقفين منهم بطبيعة الحال ، وأعني – هنا-  الاجتياح العراقي للكويت، وربما هي الروايةُ الأولى في العراق التي نظرت إلى هذا الحدث من أرض الواقع، بعين عراقية، لأن هناك روائيين كويتيين كتبوا عن ذلك، طبعاً من وجهة نظر كويتية منفعلة ، ومن هنا تأتي قيمة هذا العمل الروائي . صحيح أن الرواية لم تكن تأريخا أو توثيقا لما حدث ؛ لكنها نقلت جزءاُ غير قليلٍ مما حصل في مسرح الأحداث .
السؤال المطروح : لماذا دهاليز وليس دهليزا . الجواب لدى الروائي نفسه ؛ فقد ورد ذكر هذه المفردة ، على امتداد الرواية ، مرات كثيرة ، يقول الربيعي: " حالما تشتدُّ الضراوة ، تخطفني قواي الأخرى ، العروق الممتدة في غرين الزمان وشطارة العيارين ، إلى دهاليز عالم خفي لا تطاله مجسات الفناء" ص9. وفي موضع آخر : " إنها في عمق دهليز النوم الأزرق "  ص12. وقوله: " وصلت صدفة عبر دهاليز ودواليب غير الله لا يعلم خفاياها احد " ص20.
وهذا كله يوضح أن الربيعي أراد أن يكشف دهاليز الماضي، ويسلط الأضواء عليها، ولذلك فهي مخصوصة بالموتى، لأن أصحابها - كانوا في حقيقة الأمر– في عداد الموتى . ولذلك فهي دهاليز للحياة. وهذا يدخل عنوان الرواية ضمن العناوين الفاعلة التي يلتحم فيها العنوان مع المتن في نسيج واحد .
فنياً تجمع الرواية ما بين الواقع والتخييل ، أو ما هو واقع فعلاً وما هو أسطورة ؛ لذلك كانت تقنية الرواية تنم عن حرفية سرديةٍ قادرة على الإمساكِ بخيط ِالسردِ من دون أن يفلت منها، ولاسيما أنه اغترف من التراث، بعض تقنيات( قصص الف ليلة وليلة )، إذ أنه حاول أن يزاوج بين ما يحدث فعلاً ، وبعض الحكايات التي استلها من العقل الجمعي الذي تختزن بها ذاكرته، وعلى هذا فهي رواية تاريخ أولاً ورواية احداث معيشة ثانيا. ولا ننسى أن سرد الحكايات على طول أيام الحصار الذي شارف على الـ( ستة أشهر) من أجل بثِّ روح الصبر فيهم ؛ إذ استذكر تاريخاً شخصياً مرة، وأخرى محلياً، وثالثةً إنسانيا، وهو أمر يمكن ان نجده في التراث العربي قديما من خلال الرجوع إلى كتاب( الامتاع والمؤانسة ) الذي وزعه مؤلفه أبو حيّان التوحيدي على ثمانين ليلة. وإن اختلفت طرق السرد ؛ لكن التقنية واحدة .
والربيعي في عمله هذا أراد قطع الطريق على الواقع واليومي ليتسلل إلى بنية الرواية، وينتشلها من النزوح نحو التقريرية والمباشرة وهو ما عبر عنه د. حسن سرحان بـالـ " مواربة لزحزحة التبئير في فضاء الكتابة، من اليومي والعادي ونقله نحو العلوي والمقدس " 
وفنياً ايضاً أن الأحداث لم تكن ذات منحي متتالي، فثمة تقديم وتأخير، وتلاعب بيّن في الأحداث ، وهو أمر مسوغ في الفن السردي بشكل عام، فالروائي ليست مهمته سرد الاحداث كما حدثت، تلك هي مهمة المؤرخ ،الذي يبحث عن كل شاردة أو واردة من أجل اقتناص الحدث، ومن ثم توثيقه، أما الروائي فهو يحاول توظيف الواقعة التاريخية، ليس بالشكل المضارع للواقع، وإنما من أجل اتاحة الفرصة للمخيال، لكي يغذّيها ،ويعيد بناءها مرة أخرى، لكن لا يعني هذا أن الخيوط العامة للواقعة التاريخية تذوب في خضم الاحداث المتخيلة .
لقد افاد الربيعي من تقنية ( الف ليلة وليلة ) كما قلتُ سابقا ؛ إذ إنّهُ جعلنا نشعرُ بأنّهُ يكتبُ روايةً؛ إذ كانت القصديةُ واضحةً ، وهو ما يقرّبُ عمله مما يطلق عليه بالـ ( ما وراء السرد )، يقول مثلاً: " سأقصُ ما كان وما سيكون " ص100.  أو عبارة ( كان يا ما كان ) ص110 . وص115- 117  ، أو عبارة " سومر هيأت الغلامين للحكايات..." ص 129. أو قوله لم أنوِ السرد في الليالي الأولى لقدوم الضيوف " ص129. وربما وجد في هذه التقنية سبيلاً ناجعاً في المرور على حقب تاريخية، واحداث تركت أثراً في العراق والكويت المعاصرين معاً،  منذ ستينيات القرن الماضي، مروراً بالحرب العراقية الايرانية، وصولا الى حرب تحرير الكويت، وما تبعها من حصار اقتصادي على العراق.
بهذا جاءت هذه التقنية في خدمة الهدف السامي، وهو أن ماجرى في تسعينيات القرن الماضي لم يكن وليد الساعة أو حماقة حاكم في لحظة طيش؛ بل هي  ركام سنين من الأحداث والثقافات التي انتجت هذه الواقعة التاريخية. وعبرت عنها( مياسة ) بالعبارة التي اطلقها شخص غاضب ذات يوم" الويل لكم من يوم مغّبر ومحمّر" ص126. وهذا ما يجعلنا نقرر أن بنية الرواية لم تكن خارجة عن قصدية الروائي الذي حاول ان يخلق بنية متداخلة مستفيداً من خبرته العميقة  في التاريخ؛ كيما يجعل الثيمة الأساس، وأعني اجتياح الكويت ، هي البؤرة التي تدور حولها الأحداث الاخرى .
ونحن نتحدث فنياً عن ( دهاليز للموتى )، لابد لنا من التعريج الى لغة الرواية التي لا اتفق مع  من يصفها بالشعرية الا من بعض الاستثناءات التي لا تؤلف ظاهرة، فهي –عموما– لغة  بقيت من اطار لغة النثر من دون ان تنزل إلى الشعر وتنهل من منابعه .
 أما ما يتعلق بزمن الرواية؛ فهي وإن أرادت تغطية زمن الاجتياح العراقي للكويت الذي تخطى الستة أشهر بقليل ، وأراد الروائي أن تكون البداية في الساعة السابعة من صباح يوم الثاني من آب  زمن اجتياح الكويت ، إلا إن لعبة ( تكسير الزمن ) بدت واضحة على طول صفحات الرواية، وهي جزء من اشتغال الروائي المعاصر؛ لذلك غاب التسلسل المنطقي عن احداث الرواية وهو ما عبر عنه د. حسن سرحان بـ " أنّها لا تدور في أوّل الزمان، بل في آخره ( أو آخر آخره ) حين تنشأ وتنمو صراعات " .
وأخيراً يمكن القول: أن حميد الربيعي نجح في تسليط الأضواء على تلك السنون المكتظة بالأحداث ، من دون أن يفرض رؤيته؛ لكنه فتح المجال للراوي أن يغوص في أعماق التأريخ، ويفتحُ كوًى كثيرةً، ما كان لأحد أن يفتحها، ليبين لنا الأسباب  التي كان وراء ما حدث، عبر لغة سردية خالصة، وشخصيات امتزجت بالأحداث وتماهت معها، وقدرة على الإمساك بخيط السرد، على الرغم من التشعب والتشظي الذي يمكن يلمسه قارئ هذه الرواية .

دهاليز للموت
 بين رؤيا العودة ورهانات الواقع 
د.سمير الخليل
يعدّ موضوع النظام السياسي الذي حكم العراق ما قبل 2003، موضوعاً غنياً امام الباحثين والروائيين خاصة ، فقد توالت الكثير من الاعمال الابداعية لعرض تلك المرحلة وتجلياتها ولاسيما شخصية الحاكم الدكتاتور ، غير ان اغلبها تميل الى الابتعاد عن دلالة الاسماء الواقعية، فتتماهى مع ما هو تاريخي تارة وما هو افتراضي تارة اخرى ، كما نجد في رواية الاسلاف للعزاوي ، ورواية الخائف والمخيف لزاهر الجيزاني ، ورواية اجنحة البركوار لعباس عبد جاسم ، وهنا في دهاليز للموتى لحميد الربيعي ، فإذا كان الدكتاتور هو ادهم الشهواني في "اجنحة البركوار" ، ووهاب المولى في" الخائف والمخيف" ، والجنرال في "الاسلاف" ، فانه هنا يتماهى مع التاريخي ويلتقط اسم عبد الله الافطس . على اننا لا نعدم ان نجد عنوانا مباشرا لاسم الدكتاتور كما في رواية عالم صدام حسين لمهدي حيدر .
ما يهمنا ان اغلب الروايات، ان لم نقل معظمها حتى الان، تتفق على ان الحاكم كان طاغية ودكتاتورا تمرس القتل واخضع البلاد لحروب تدميرية وقاد شعبه الى محنة الضياع ومجهولية المصير، لذا فأننا نجد ان شخصية صدام حسين ستتحول الى انموذج يغطي روايات الدكتاتور، التي تؤثر بشكل ضاغط على سردية هذه المرحلة، قد يقف وراء ذلك ان الحدث ما يزال ندياً يستعيد مشاهده من افق تلقي مشترك بين الكاتب والقارئ، وقد يكون التوظيف ادانة لممارساته التي يحتاج السرد ان يشارك التاريخ في تدوينها وعرضها في الوقت الحاضر. ولا نستبعد ان تتغير ثيمة الشخصية كلما ابتعدنا زمنيا عن الحدث، المهم ان السردية العراقية والعربية تشتغل على هذه الثيمة وتلتقط عبرها مصادر الجرح الضاغط على وجدان الشعوب، ولربما سيكون وسيلة لاستقراء امزجة الشعوب وتحليل بنايتها للوقوف على مصادر انتاج الدكتاتور وعلاقته بالوعي، الذي ينتجه وبإرتباطه بمجتمعه .
تتألف الرواية من ستة عشر مقطعا، ينشغل فيها الرواة بتتبع سيرة الاب حمدان المتماهي مع شخصية المعلم حمدان التاريخية، الذي عبر نهر الكارون هربا من الخليفة العباسي بسبب اعتراضه على بناء مدينة بغداد مدورة، فالرواية - التي يشير اليها الراوي في النهاية تضع عنوانها في اطار ميتا سردي يتمثل في طرحه داخل الرواية، وهي (دهاليز للموتى) - تحاول البحث عن دهاليز الحياة التي تتحكم بها جدلية الخير والشر في صراعهما الازلي المتمثل بالسلطة المستبدة والثائر المقاوم((... في الأيام التالية سيشكلن فريق بحث للتنقيب في السيرة وتدوين الحكايات تحت مسمى "دهاليز للموتى"، سيتم الانتهاء منه بعد عشرة اعوام))  ،وخلال السنوات العشر تختمر احداث الرواية وتنضج وهي تراقب ما يستجد من متغيرات .
 لذا فان رواية الربيعي صيغت على مهل، مارس فيها الروائي لعبأته الفنية من قطع وعنونة للمقاطع وتنوع للرواة، وتداخل الواقعي بالمتخيل العجائبي، كل ذلك ليعرض لنا الحدث الرئيس وهو البحث في سيرة الاب حمدان وتتبع جذور السلالة، وهي مهمة تقوم بها ثلاث نسوة وغلام وهن ( سومر ابنة الراوي وابنه حمدان الشاطر، والعمتان : وجد المنشدة القابعة وسط اتون المدينة وحرائقها، والقادمة من جبال الالب العمة انوار) وعلى عاتق هؤلاء يقع سرد جزء كبير من احداث الرواية الى جانب الراوي/ البطل وشخصيات أخرى مثل الزوجة مياسة، والأم ..، ويأتي حدث الحرب موازيا للسيرة، بل يشكل نقطة الاضاءة التي تدفع لعرض العلاقة بين عبد الله الافطس وحمدان .
من هنا فالربيعي مشغول بالتقاط هموم الوطن وجراحه النازفة، يلتقط الخليج وحربه ليرسم رواية دهاليز للموتى ويوظفها –كعادته- ضمن تقنياته السردية ما بعد الحداثية، فبعد مرحلة التجريب التي خاضها في اعماله السابقة يعود لينهل من الذاكرة والتاريخ والموروث الشعبي مواداً تصيّر طبعه الروائي ليقدم لنا عبر روايته هذه مشروعا لقراءة التاريخ بنسق مغاير، فيوزعها في رؤيا غرائبية تتجاوز المألوف لتستحيل الى فنتازيا، لا مناص منها لتأشير بؤس الواقع .
 هذا الارتفاع والمزاوجة هو تخليص حرفي للنص من التقوقع في بؤرة زمنية قد تهملها القراءة، ومكان جغرافي يضيق بحدود النص، وهو الرحالة الذي لا يعرف الاستقرار، كما يظهر في استهلال الرواية(( ليست ببلدي، بيد انها محطة، كالعصفور، انتقل منها الى مدن شتى، في اصقاع شتى ايضا، كواحدة من رحلاتي البطوطية مطمئنا لوجودها على الخارطة)) .
تطرح الرواية السؤال الآتي((من يمنح الحياة اذن فرصتها؟ حلم مشؤوم يأبى خاتمته أم رقم كالطلسم سيظل وديعة؟)) .
تقوم الرواية على المقابلة الضدية بين( المتخيل/والتاريخي)،فالراوي/البطل ما هو الاَّ رقم تنبأت به العرافة وهو يقابل بدوره شخصية تاريخية هي عبد الله الافطس، وبعيدا عن مقترباته التاريخية، فأننا نشهد كيف يعيد الربيعي تركيبها في الرواية لتحيل على خارج الرواية(شخصية الحاكم السابق) وطبيعة العلاقة على امتداد الرواية هي علاقة متوترة مأزومة يبحث الثاني فيها عن الاول (الرقم) لينهي حياته، وينهي بذلك اسطورة امتداده الزمني وتاريخه في المقاومة .
 يفتح الراوي الزمن وينفد عبره ليطل برأسه على الحاضر ويظهر فيه ان المطاردة ما تزال مستمرة، بل هي السبب في نشوب حرب بين دولتين، اذ يظل هاجس عبد الله  هو العثور على حمدان الرقم ((لقد بلغ الاسى به الذروة ولم يتزحزح قيد انملة كيما يتأنى قليلا، ينسى القوات التي تحاصره، لكنه مُصر على المطاردة، مأربه أنا وليذهب التاريخ والقوات الدولية الى الجحيم)) .
 كانت ثيمة المطاردة تخليصا ذكيا من الروائي لنصه من التورط في اشكاليات الحرب، وأتاحت امامه فرصة مراجعتها من منطقة التماس بالثيمة الرئيسة في الرواية.
يتماهى بطل الرواية برقم تبلغه اياه عرافة السيد مالك عندما تقوم بقراءة طالعه، فتخرج رقعة جلد مدبوغة، انتقلت عبر دهاليز ودواليب- تذكرنا برواية امرأة القارورة لسليم مطر– تصل الى البطل الرقعة مكتوبة بالدم وفيها((4223.. المخضب، المرتجى، المولود، الحالم، المجتبى، العائد، النعمان)) .
    وعلى غرار ما نشاهد في افلام المنقذ مثل (ماتركس) يأتي السيد مالك على هيئة الرجل الروحاني، الذي يبلغ البطل بأنه يحمل سر الخلاص للبشرية وانه سيكمل سلسلة الخير وسيواجه الشر، وهذا ما يتسرب الى وعي البطل عندما يواجه جنود الافطس الباحثين عنه ((عبد الله الافطس لا يمهل الوقت ورجاله الان يفتشون بيت الجار، لحظات وسيكونون في صحن الدار، انا بحاجة الى بعض الوقت))  فهو يذكرنا بأنه خالد لا يموت ((انا عصي على الموت ما دمت اتماهى مع سيرة اجدادي)) .
هنا يفتح السؤال أبوابا مشرعة على معنى الرقم (4223) الذي يخبرنا الراوي بأنه مكون من (23) أسبوعا (42) يوما وهي مدة الحرب والاحتلال، هذا بحسب قراءة الراوي لها. اما نحن فيمكن ان نمنح الأرقام قراءة أخرى، عبر حاصل جمعها الذي يؤدي بحسب المجموع الى الرقم (11) وهو يشير إلى انه ليس المخلص كما تنبأت له العرافة العجوز في بداية الرواية، وإنما قد يكون السبب في ولادة المخلص، وهو الذي سيحمل الرقم (12) ويحيل الى ما تدور حوله الاشارات الدينية المبشرة بولادة الامام المهدي .
 وإذا ما بحثنا في القرائن الموجهة، فأننا نلاحظ ان للراوي ابناً وهو الغلام حمدان الشاطر الذي يتناص اسمه مع اسم الاب مع اضافة لقب الشاطر اليه في مفارقة مع حمدان الاب وحمدان الذي انتهت ثورته بالفشل، وقرينة اخرى تتمثل في امتلاك الغلام لقوى خارقة للطبيعي تسانده وهو ما يزال صغير السن، كما ان الصفات السبعة للرقم 4223 تتضمن صفة العائد، وحسب ما يرد على لسان ابنه في نهاية الرواية، فأن اباه سيعود بعد الساعة السابعة، فيكون صفته العائد اذن وهو بذلك يحمل الرقم 11 .
 يتبقى لدينا اخر الصفات وهو النعمان، وإذا ما ضممنا الى المؤشرات السابقة حديث الشيخ للبطل عن الرقم الذي يحمله ((الرقم وديعة لذريتك من بعدك)) فان كل ذلك يدفعنا لتبني القراءة التي تحيل على فكرة ان المنقذ ليس البطل – كما تريد الرواية ان توهمنا - وإنما هو الغلام ابنه.
وقد تحيل الإشارات الى الجد الاول للبطل- الذي عاش منذ (4223) عام كما يخبرنا الراوي- على النبي ابراهيم (عليه السلام) بملاحظة المؤشرات التاريخية، التي تؤرخ لولادة النبي ابراهيم قبل (4000) عام وزواجه بثلاثة نسوة ، كما يرد في التوراة والإنجيل من اخباره– بصرف النظر عن مدى صحتها- ومنه اعتمد البطل على ان يضع له ثلاث جدات، والأهم ان الراوي يقول عن نفسه بأنه كفؤ البابلي ومعروف أن موطن النبي ابراهيم كان في بابل.
في محاولة الاختباء والبحث يقرر الراوي الرقم (4223) الانتقال من مرحلة الوعي القائم الى الوعي الممكن – بتعبير غولدمان- عبر قرار الكف عن الاختباء وتحويل الحدث الى مواجهة مع عبد الله الافطس، فيقرر ان يعود الى بلده (( غداً..العودة.. الذهاب الى ارض الغرين))  . اذ انه لا يجد مناصاً من المواجهة ((صار كل شيء مرهوناً بالزمن، لقد دخل بقسوة بحيث بتنا، انا في جلستي الصنمية وهو بأوامره الى القبائل، نتسابق، لم يعد فكاك، انها المعركة الشرسة الاتية، اما الذبح على ناصية الحفر، وأما الدفن في قيعان الظلمات))  . وتحيلنا قيعان الظلمات على ما ذكره الشيخ للبطل (( يا بني ليس كل ما في الأرض للأرض))
- لدي رقم كالطلسم نفدت فعاليته!!
- لا تأتِ الخاتمة ألا اذا نهض الحي من قاع الظلمات ،... الرقم وديعة لذريتك من بعدك))  غير ان العودة والمواجهة لا تتحقق، فسرعان ما سيختفي البطل عند دخوله للوطن وعند الساعة السابعة ، ومن ثم ينقطع ظهوره في احداث الراوية ويتولى السرد راوٍ بضمير الغائب .
وأما من هو الحي فهو المسكوت عنه، اذ يطالعنا جواب الشيخ بما يسمى في البلاغة بالأسلوب الحكيم، وهو ان تجيب السائل بما لا ينتظره، فيترك فراغاً بين الإجابة يملؤه القارئ بطاقة التأؤيل وموجهات القراءة :
(( - هلا اسأل عن الحيّ
-    امض يا بني في سبيلك.. لك البركة))  
تتلخص فكرة اللاوقعي او التخيلي والعجائبي في الثقافة الغربية من خلال عمل تودوروف في تحديد موقع العجائبي بين الواقعي والمتخيل، بوصفه مواجهة القارئ لحدث خارق لقوانين الطبيعة، مما يوقعه في حيرة، يصدق ام يكذب ما يقرأ ويسمع .
العجائبي في الرواية المتناثر بين رؤيا حلميه وأخبار وقصص، يمزج الواقعي باتجاه مناطق تماس تشكل ضربات روائية موفقة، فتصبح عوالم جديدة تتميز جغرافيتها وتنزاح عما هو مألوف ومتداول في عوالم التجربة الواقعية، اذ لا نكاد نعدم حضورا في ستة عشر مقطعا سرديا لانتقاله حلميه هنا او رؤيا هناك او تداعٍ لأفكار يتقاطع فيها المتخيل بالواقعي .
كما ذكرنا فان سرد الاب ينقطع عند دخوله الى البصرة في طريق العودة الى بغداد بعد الحرب وعند الساعة السابعة((على مشارف المدينة نقضي الليلة وعند الساعة السابعة صباحا ندخل العشار ثم نصعد مع النهر)) ص230، يبدو ان هذه الساعة اشارة زمنية متفق عليها لبدء التغيرات ((معول عبد الله جهاز كل حين، مرة تكون المعاول محافل سرية خلف البقالة، ومرة تتحول الى وجوه مدعوكة لتروضني في اقبية الجامعة، كعصا سحرية تغدو المعاول فوهات مدافع تدرك شواطئ البحر. بصدفة غريب تحمل قبائله المعاول الى هنا، وقت سفرتي عند الساعة السابعة صباحاً، ألاف الحيوات المتشابكة تداخلت، سفر ولا في قصص الخرافة يرد، انه الاستنباط الدائم لكينونة الخلق)) .
يعبأ الراوي الساعة السابعة بالكثير من الدلالات، فمن دلالة الخلق القرآنية وأسرار الرقم سبعة ينطلق الراوي الى تحميل كل ما يجري على عاتق هذا الرقم ((هنالك الكثير من السبعات وغالبا ما تتلظى الساعات السابقة في حمى ودوار لذا علي ترتيب السيرة بنمطها الانفجاري)) ، فالساعة السابعة تحمل مؤشرا لحدوث الكوارث،(( تبدو الساعة السابعة فتيلة اتقاد لجمرات ملتهبة في القعر)) غير اننا في نهاية الرواية نجد ان مؤشرات عودة البطل مرهونة بتجاوز الساعة السابعة كما يرد على لسان حمدان الابن ((سيعود ابي، بعد الساعة السابعة)) .
فبين  العندية( من عند) والبعدية(من بعد ) يكتب الكاتب روايته، بين تحقق الواقع ورؤيا القادم، وهي المنقذ من تلك الدهاليز والأقبية باتجاه افق الحياة المشرعة، ومهما كان هذا التفاؤل مفرطا في ايجابيته، فوظيفة الادب تقتضي ان لا تكون النهايات بلون الواقع دائما .
ويؤازر ذلك الخطاب خطاب الكنتية(من كان )، وهو خطاب يمنح السرد بعدا يحيل على الواقع، فالواقع يقابله واقع له موازٍ له غير ان الراوي يفتحه على المستقبل وهو اضافة فاعلية جديدة لخطاب الكنتية التقليدي، فنحن غالبا ما نفهم انه بمجرد ان يبدأ السرد بـ(كان يا ما كان) سنكون ازاء استعادة حدث ماضي، غير ان الكاتب يتجاوزه الى خطاب الكنتية المستقبلية ((سأقص ما كان وما سيكون))  في اشارة الى مرويات اخرى ستظهر تعدل مرويات سابقة. وبشكل عام فان الراوي يوظف الكنتية ما يقارب ست مرات ليفتح نافذة باتجاه الماضي والمستقبل وهو ربما يكون دافعا طبيعياً ونفسياً لاستعادة مفردات الحياة وممارسة الوجود والاستعاضة بالماضي عن الحاضر والاستمتاع به، كما يقف ورائها دافع ثقافي ونسقي، اعادة قراءة الذات المستلبة من موقع.
دور الثقافة الشعبية في تشكيل هوية سردية عراقية...

قراءة في تجربة الروائي حميد الربيعي
د. حسن سرحان
سأتطرق في هذا المقال الى مسألة تمس الرواية العراقية المحلية، ترتبط بتأصيل النص الروائي العراقي بحيث يكتسب هوية سردية خاصة به، تسمح بإدراجه ضمن التأريخ ودفعه في مخاض حركي، يتلاقى فيه ويتفاعل مع غيره من النصوص العالمية، دون أن يصل هذا التفاعل مع المبايِن والمختلِف من الأدب العالمي (وهذا ما هو غير متحقق اليوم في روايتنا العراقية)، حد التنازل عن شروط الخصوصيات والفوارق، التي تتحدد بالثقافة والتاريخ والوعي واختلاف المرجعيات الجمالية والحضارية .
يمكن إدراج هذه المسألة ضمن المباحث النظرية التي تتصل بالنقد الثقافي، بعيداً عن كل خطاب افتخاري ونزعة تمجيدية وآراء حماسية تعكس هوساً مرَضياً ولا تجد لها الكثير من المصاديق والشواهد في أرض الواقع .
ينبغي الإشارة منذ البدء الى ان الرواية العراقية الراهنة تعاني، من بين أشياء أخرى، أزمة هوية وإثبات الذات وبلوغ الإنيّة ناتجة عن فقدان تقاليد أسلوبية وفنية ودلالية ثابتة تمتلك القدرة على ربط  القيم الجمالية، التي أفرزتها رواية الحداثة وما بعد الحداثة، مع قيم التأريخ العراقي الثقافي،  ذي الإرث الشامل على أبعاد رمزية ونوىً روحية تنأى به عن أن يكون مجرد نسق مغلق من الرموز والعلامات.
مقالي هذا يأتي في سياق التحريض على استثمار عناصر القص من أحداث وزمان ومكان وشخصيات يفترض بها ان تشكل في مجموعها تجليات عراقية حقيقية،  تكفل صنع هوية سردية خاصة بالرواية العراقية على غرار الهوية السردية التي تمتلكها الرواية المصرية أو السودانية أو حتى الخليجية، فضلا عن الرواية المغاربية .
ان الهوية السردية في الرواية لا تصنعها فقط شخصيات الرواية، من خلال قربها او بعدها من حدود الأنا الثقافية المنتمية الى فضاء ثقافي تحاول الرواية تمثيله وتمثله. الهوية السردية تتشكل أيضا من تفاعل الزمان والمكان والحوار والأحداث، التي يمكن تتبعها على طول امتداد زمن القص. استثمار هذه العناصر كلها، سيما المكان بفضائه المفتوح على المدينة والريف والزمان وتعدد مستويات أنساقه السوسيو/معرفية ، يؤسس لهوية النص ويقاربه من تمثيل الفضاء الثقافي الذي ولد فيه .
ان الهوية السردية تعتمد، كما يرى ذلك بول ريكور، بالأساس على نتاج التفاعل بين عالم النص من جهة، وعالم القارئ من جهة أخرى. وعالم القارئ يشتمل، من بين اشياء أخرى، على مرجعيات لها وجودها الراسخ في الموروث الثقافي الشعبي، وهذا ما اريد التركيز عليه: التحريض على توظيف الثقافة الشعبية، بجانبها السردي خصوصا، في النص الروائي. تكثيف استخدام سرديات الثقافة الشعبية بخزين حكاياتها وبخيالها وقابلية التوليد والنماء، التي تشتمل عليها أجواؤها ، من الممكن ان يؤمن للنص هوية سردية خاصة. ولا يخفى اثر الثقافة الشعبية في تشكيل ملامح رواية ما بعد الحداثة.
انا ممن يظنون أن أصالة رواية ما بعد الحداثة لا تكمن في البحث عن الأشكال الجديدة في التعبير فحسب ولا في الإغراق بالتجريب، الذي حوّل الرواية إلى "بقعة باهتة من السرد المتواصل". إن خصوصية ثقافة ما بعد الحداثة تمثلت بإنتاج نوع من الفن لخصه ليبتوفسكي بأنه: " فن دون ادعاء، فن عفوي، حر، على صورة المجتمع النرجسي واللامكترث". ومجتمع ما بعد الحداثة، لا سبيل لإنكار ذلك، نتاج مزاج معاصر أخذت ذائقته الفنية تميل أكثر فأكثر نحو تكريس الثقافة الجماهيرية الى الحد الذي أضحت فيه هذه الأخيرة القيمة المركزية الأكثر تعبيرا عن روح عصرنا.
على أن توظيف الثقافة الشعبية لا يجب ان يتوقف عند حد استثمار ارثها الحكائي الشفوي، بل لا بد أن يتعداه الى محاولة التوظيف الذكي والمحسوب للهجة العامية وتباينها بحسب تباين المكان، دون أن يعني ذلك إغراق النص في حوارات باللهجة العامية، غرضها الوحيد إظهار اختلاف اللهجة عن سواها من اللهجات، والعامية إن لم تخدم ترسيخ خصوصية الهوية السردية فلا داعٍ من استخدامها.
ان توظيف الثقافة الشعبية لن يكون ممكنا الا عند قراءة تاريخنا المحلي ، ليس باعتباره تاريخا مركبا من الممارسات الاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية حسب، بل بوصفه عالما من الأسطورة والحكايات التي تحتوي على معان ودلالات انثروبولوجية، تتماهى في كثير من تفاصيلها مع الايقاعات الزمانية والمكانية لحركة الواقع .
وهذا يبدو لي أهم شروط وعينا بخصوصية الهوية السردية لروايتنا وبدونه نفقد ميزة الكشف عن أبرز سمة للعمل الروائي المتمثلة بكونه دالا مدلوله العلة الخارجية، أي الواقع المستثمر إدراكيا من قبل الروائي. وهذه قيمة أخذت بالعودة الى الإعلاء من شانها كل الخطابات الثقافية المعاصرة التي تتبنى المنهجيات الما بعد حداثية في تفسير الدلالات السيميائية اللامتناهية للتفاعل المنجز بين الكاتب والواقع. 

تجربة الروائي حميد الربيعي
ضمن هذا الإطار أجد أن سعي الروائي حميد الربيعي الى تحقيق هوية ثقافية خاصة بنصوصه السردية يستحق الاشارة والتنويه لأن الأمر يتعلق، حسب ما أرى، بعمل ممنهج، مدروس، ذي قصدية واضحة،  وليس خاضعاً لمزاج فرضته لحظةُ ابداع معزولة أو صدفةٌ عابرة، ذلك أن الروائي حميد الربيعي حاول، منذ روايته الأولى (سفر الثعابين، 1987)، التاسيس لتقاليد اسلوبية وفنية ودلالية تتحكم في عمله الابداعي، مبنية على استثمار ملامح شديدة الالتصاق بالثقافة الشعبية، التي تكاد تهيمن على نصه وتحدد انتاج الخطاب لديه .
أجواء رواياته (سفر الثعابين، تعالى وجع مالك، جدد موته مرتين، ودهاليز للموتى) راكزة داخل سياق اجتماعي معروف أو قابل لأن يكون معروفاً، يتغذى من التاريخ ويعتمد على عصرنة بعض أشدّ الأساطير الشعبية فاعليةً في العقل الجمعي العراقي( واقعة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين وصحبه وآل بيته سنة 61 هجرية)وتوظيفها لصالح الواقع الذي ترسمه الرواية. ينبغي التأكيد على أن استرجاع الاسطورة ليس فعلاً سلبياً خاملاً في نصوص حميد الربيعي، لأن الميثولوجيا، وإنْ تلبست لبوس القداسة في روايات الكاتب، تبقى تمارس دورها التفسيري داخل النص .
لذا فان استحضار الحكاية الشعبية المروية شفاهاً وتحويلها الى متن حكائي قادر على أن يخلق هيكلية سردية لخطاب روائي متميز يتجاوز، عند حميد الربيعي، مجرد النبش في الذاكرة الجمعية المحلية ويتعداه الى محاولة خلخلة الاعتقاد بهيمنة الرمز وبفاعلية سطوته المقترنة دوماً بالسياق الثقافي المنفلت عن قيود الزمان والمكان.
في نصوص حميد الربيعي الروائية، التي تستعيد الأساطير النابعة من المحيط الشعبي، يختلط الميتافيزيقي بالاخروي بالجيوسياسي، مما يضمن للاسطورة فاعلية وراهنية تساهمان بانتمائها الى الزمن الحاضر، بما يكفل لها الاستمرار والبقاء .
لا تظل الاساطير حية الاّ عند ربطها بحركة الواقع وديناميته، بينما تخلو من اي معنى وتكون ميتة، اذا ما تركت حبيسةً في الماضي. أضف الى ذلك، ان الاسطورة عندما تتداخل في الواقع وتتشابك معه، لا يعود هذا الأخير نفسه او على الاقل ان تاويله وتفسيره سيتغيران .
هذا ما يفعله حميد الربيعي في رواياته ، التي تعرض لنا الكيفية، التي بحسبها نستطيع ان نرى اساطيرنا حيةً، بحيث لا تعود هذه الأخيرة مجرد حكايات تنتظم داخل الاطار العام لموروث جماهيري، أودعت فيه المخيلة الشعبية جزءاً أساسياً من أحلامها وآمالها ومداراة خيباتها، بل تتحول الى علامات لتأويل الواقع وتفسير ملابساته .
عندما يستعير أبطال الربيعي (أو أبطاله المضادون، إن شئتم دقة أكبر) مسيرة اسطورية فانهم يلونونها بدوافع تنتمي الى العصر الذي توظف فيه الحكاية الميثولوجية. بمعنى ان المخطط الميثو/سوسيولوجي لرحلة الشخصيات لا يطابق دوماً تفاصيل الاسطورة المعاد تفعيل حضورها، بل ينفلت مرات عديدة عن الأصل، كي يقترح مقاربات غير تلك التي تصدت لها الحكاية/النموذج في نسختها الاولى .
 يبقى خطر توظيف الاسطورة متمثلاً في انها وسيلة مثلى لتمرير ايديولوجيا فكرية قد تجنح بالعمل الروائي نحو المباشرة والقصدية، سيما في حالة فرض تساوق منطقها الخيالي مع افق توجهات الكاتب ومناطق تفكيره الأثيرة. على أني لا أستبعد البتة، ولديّ في روايات الكاتب أكثر من شاهد، أن الربيعي، بما يتوافر عليه من موهبة، ما زالت تحتفظ بالكثير، قد تجنب تورط الخضوع لاغراء التبني الفج لمقاصد وبنى وتسويات سياسية أو اجتماعية أو حتى فنية .
 تبقى تجربة اشتغال الروائي حميد الربيعي على منطقة الاغتراف من الموروث الحكائي الشعبي ، بوصفها محاولة مواربة لزحزحة التبئير، في فضاء الكتابة، من اليومي والعادي ونقله نحو العلوي والمقدس، محاولة ابداعية مميزة، من منظور سعيها لخلق بنية روائية، ذات رؤية جمالية، يتداخل فيها الغرائبي بالمألوف والعجائبي بالممكن والملحمي بالواقعي.

تأملات في رواية "دهاليز للموتى"
الايديولوجيا بين الواقعي والأسطوري
أشواق النعيمي                                                       
لاتكشف رواية (( دهاليز للموتى))  للروائي حميد الربيعي عن مقاصدها  ولاتفصح عن مدلولاتها المخبوءة خلف طلاسمها، خاصة انها تقوم على نسق البناء المتداخل الذي تقدم فيه الأحداث من دون الاهتمام بتسلسلها الزمني، إذ تتقاطع وتتداخل أحداثها في دلالة فنية تهدف إلى جعل الحدث بؤرة الاهتمام، ما يستدعي متلقيا ذا وعي متطور لإعادة ترتيبها وصياغتها وفقا لقراءته المدركة لمعطيات المرحلة الزمكانية بأبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، إنها تتوجه وكما صرح الروائي  في الخاتمة، إلى مرو له القدرة على إدراك الافتراضات والقضايا المسبقة ودلالتها الإيحائية ليبحر في أغوار النص وليسترسل مع شخوصه الزاخرة بحمولاتها الدلالية.

تكشف القراءة السردية أن بنية الرواية تقوم على أمرين :
1ـ توظيف الهيكل البنائي لحكايات ألف ليلة وليلة في بناء النص الروائي على مستويين، حكاية إطارية تعالج معاناة البطل بطريقة السيرة الذاتية، تتفرع منها حكايات أخرى هي عبارة عن استرجاعات داخلية تدخل ضمن خط المحكي الأول لسد فجوات سابقة ولربط الزمن الماضي بالحاضر، فضلا عن مماهاة شخوصها وأحداثها الغرائبية وعوالمها المكتظة بالجن والعفاريت. أما  المروي له، الممسرح الظاهري، فيتمثل بشخصية سومر ابنة البطل التي تقابل شخصية شهريار، وما تلبث أن تتحول بدورها  إلى أحد الأصوات السردية .
2ـ استلهام الأسطورة واستنفاد معظم أبعادها من خلال:
أـ استخدام اللغة الفوقية المفارقة للواقع الموضوعي، لغة تتخذ من التشبيهات والاستعارات والكنايات منهجا في الخطاب السردي، وهي اللغة الغالبة في الرواية .
ب ـ أسطرة بعض شخصيات الرواية بتحميلها صفات وقدرات هي فوق طاقة البشر الاعتيادية مثل شخصية) سيد مالك( في تقارب واضح مع شخصية المخلص التي تنتمي إلى الأنثروبولوجيا العقائدية الموجودة في جميع الديانات والمذاهب، تظهر تلك الشخصية في وقت الشدائد لمد يد العون لبعض شخصيات الرواية ومنها  إنقاذ  البطل  عند ولادته على أرض الحقل ورعايته، وعند انتهاء المهمة تختفي مثلما ظهرت.
ج ـ أسطرة المكان من خلال نعته بأوصاف غرائبية وخارجة عن المألوف، فالبحر يرفرف أجنحة بيضاء، يصفق موجه ايذانا بانتهاء المهرجان، وتل حرمل ارتفع سطحه بسبب حركة الأقوام تحته، والقرية انفصلت عن العالم بعدما انخسفت الأرض عند حدودها، ورمل الصحراء المحترق دهورا تحت الشمس يتشرب دماء القتلى ويبقى جافا كمخلوق خرافي.
د ـ مزج الحدث الواقعي بالأسطوري لاستدعاء الفضاء التخييلي والوجداني، الذي  تتجاوز أبعاده الدلالية إلى أخرى جمالية تخدم مقاصد النص. فالأجساد عند السباحة تمسي فضية يخترقها البصر تكشف هيئة الخليقة الأولى، وحركة الدبابات آلهة وهمية تزحف بسرعة الضوء.
ه ـ التوسل  بالرموز الأسطورية وتحويلها إلى بؤر إيحائية كالبحر، رمز الوجود الأول، الذي تنبعث منه الحياة، والنهر شريان الحياة ودفقها، والرقم  الطلسمي 4223"الحرز"، ومساحة بستان الجد المسروق، والرمل رمز اليباب والانفلات نحو القاع، والرقص كرمز تعبيري، فـ «كفؤ» يرقص طربا، والموجة ترقص وهي تغرق في الضياء، والنغم يرقص في أعالي الفضاء، وغيرها من الرموز التي تعد أيقونات تم توظيفها  كمعادلات موضوعية .
وـ استلهام أساطير الخلق الرافدينية، في تجل روحي للذات التموزية في انبعاثها من غياهب العالم السفلي، وفي ولادتها الربيعية المتجددة منذ الأزل. الرواية تعكس معاناة الغربة والضياع، يتسع أفقها الجغرافي ليضم بالإضافة إلى بغداد الكويت ومراكش لنشهد تشظي الذات بين المكان واللامكان، بين الواقع واللاواقع، بين مدن الأطلس ومدن العالم السفلي.

أول رواية عربيّة عن حادثة غزو الكويت .
صدرت ، عن داري نشر في دمشق وبيروت رواية ( دهاليز للموتى)  للروائي حميد الربيعي ، وهي الرواية الرابعة له بعد "سفر الثعابين" و "تعالى وجع مالك" و "جدد موته مرتين" في حجم وسط و230 صفحة .
 الحدث يدور في مدينة الكويت في لحظة بداية الغزو ، عندما يصطدم " كفؤ البابلي " مع الدبابة التي تسد منفذ الدائري الرابع وهو في اتجاهه إلى السفر هروبا من القبائل الغازية.
الشخصية الروائية تتماهى مع الاله تموز في رحلته الموسمية، عندما يقيد  في ارض الظلمات ، من لحظة التصادم  تبدا الشخصية في البحث عن أعادة قواها ثانية كي ما تتاح العودة ثانية إلى الأرض وبداية فصل الربيع .
الرواية، وعبر استرجاعات، ترافق مسيرة أنشاء دولة الكويت في بداية عقد الستينات واحتراق معمل خياطة الملابس العسكرية لتجهيز الجيش الذاهب إلى الجنوب، أيام جمهورية قاسم .
العائلة ،العراقية ، المحاصرة بالغزو،  تبدأ في الروي، مماهاة مع حكايات ألف ليلة وليلة ، طارحة معلومات جمة عن جغرافية المنطقة وهجرة قبائل الجزيرة باتجاه حضارة الأنهر، مع ريبورتاجات للحياة اليومية للغزو.
كتب أستاذ الأدب المعاصر في جامعة السوربون ، د. حسن سرحان ، على غلاف الرواية الاخير :
 الروائي حميد الربيعي ، كاتب مولع باستحضار الميثولوجيا الشعبية، تشهد بذلك نصوصه السابقة، حيث  تلامس بحرفنة من ناحية التجريب حافة النضج البنائي، يختلط فيها الكوني والديني بالجغرافية السياسية .
تمتاز "أساطير" حميد الربيعي بخاصية أنها لا تدور في أول الزمان، بل في أخره( أو أخر أخره)، حيث تنشأ وتنمو صراعات .
 يستعير  بطل الربيعي ( أو بطله المضاد أن شئتم دقة اكبر) مسيرة أسطورية، تلونها دوافع تنتمي إلى العصر الذي توظف فيه الحكاية .
 هذا المخطط الأرثي \ الاجتماعي، غير المطابق تماما للأسطورة، المعاد تفعيل حضورها،ينفلت عن الأصل، كي يقترح مقاربات غير تلك التي تصدت لها الأسطورة في نسختها الأولى .
 أن تجربة اشتغال الروائي حميد الربيعي على منطقة الاغتراف من الموروث الحكائي الشعبي، بوصفها محاولة مواربة لزحزحة التبئير، في فضاء الكتابة، من اليومي والعادي ونقله نحو العلوي والمقدس .
 تظل تجربة أبداعية مميزة، من منظور سعيها لخلق بنية روائية متفردة، يتداخل فيها ألغرائبي بالمألوف، والعجائبي بالممكن،والملحمي بالواقع .

 PUKmedia  خاصّ

شاهد المزيد

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket