بغداد وباريس

الاراء 09:47 AM - 2015-03-11
د. لؤي محمود الجاف

د. لؤي محمود الجاف

منذ مدة وأنا مشغول بالبحث عن المصادر التي تتناول تفاصيل عن العلاقات العراقية الفرنسية في كل المجالات. فمن جهة، البلدان مهمان بالنسبة لي، ووجود علاقات ودية وقوية بين الشعبين تهمني كثيرا. ومن جهة اخرى، تعميق العلاقات بين الفرنسيين والعراقيين من خلال النشاطات الثقافية والندوات التي ينظمه المركز الفرنسي الكردي في باريس الذي لي الشرف ان أترأسه، سبب آخر دفعني الى البحث عن دهاليز هذه العلاقات واسرارها. ولابد من القول بان الحظ لم يحالفني، حيث لم اجد كتبا كثيرة عن هذا الموضوع (لا بالعربية ولا بالفرنسية) الا بعض الدراسات والابحاث هنا وهناك.

تعود العلاقات الودية بين بغداد و باريس الى قديم الزمان أيام الخليفة هارون الرشيد (٧٦٣ - ٨٠٩ م) والامبراطور الفرنسي شارلمان (٧٤٢ - ٨١٤ م). هارون الرشيد الذي كان الخليفة العباسي الخامس يعتبر أحد أشهر الخلفاء العباسيين الذين يذكرهم التأريخ الى اليوم لما شهد فترة حكمه من ازدهار وتطور مقارنة بالبلدان الاخرى القريبة والبعيدة من الامبراطورية العباسية على حد سواء. كما ان في ذهن أهل الغرب، اسم هارون الرشيد مقترن بقصص وحكايات ألف ليلة وليلة التي ترجمت الى الفرنسية ولغات اخرى، والتي تعتبر من أروع الحكايات التي حكيت الى اليوم. أما شارلمان فقد كان ملكا للافرنجة وامبراطورا عظيما، استطاع ان يبسط سيطرته على الغرب بمباركة من رجال الدين الذين كانوا متمسكين بامور الكنيسة المسيحية.

ان العلاقة بين الدولة العباسية والملوك الغربيين كانت موجودة قبل فترة حكم هارون الرشيد، لكن علاقة الصداقة التي تكونت بينه وبين شارلمان كانت متميزة. طلب شارلمان من الرشيد ان يحمي الرعايا المسيحيين ويحسن معاملتهم. ومن هنا بدأت علاقات الود والاحترام تنمو بينهما حتى وصل الى تبادل الهدايا الثمينة. ومن الهدايا التي أرسلها هارون الرشيد إلى شارلمان والتي أحدثت في وقتها ضجة كبيرة، الساعة الضخمة التي تتحرك بواسطة قوة مائية وعند تمام كل ساعة يسقط منها عدد معين من الكرات المعدنية بعضها في أثر بعض بعدد الساعات فوق قاعدة نحاسية ضخمة، فيسمع لها رنين موسيقى يصل الى أنحاء القصر. وفي نفس الوقت يفتح باب من الأبواب الاثني عشر المؤدية إلى داخل الساعة ويخرج منها فارس يدور حول الساعة ئم يعود إلى حيث خرج، فإذا حانت الساعة الثانية عشرة يخرج من الأبواب اثنا عشر فارسا مرة واحدة، ويدورون دورة كاملة ثم يعودون فيدخلون من الأبواب فتغلق خلفهم. العجيب في هذه القصة التي ترويها لنا الكثير من المراجع التأريخية، ان رجال دين لدى شارلمان اعتقدوا أن في داخل الساعة شيطان يحركها والا فمن المستحيل ان تعمل هذه الساعة لوحدها، فاقنعوا شارلمان وكسروا الساعة ولم يجدوا بداخلها شيئا. لم يخطر ببال المحيطين بشارلمان ان ياتوا بمن يفهم في قوانين الفيزياء والميكانيك، وغلبوا التفسير الغيبي على التفسير العلمي. يبدو ان هذا هو ناموس الكون، عندما تدخل الخرافة في حياة الناس، تفسد عليهم نعم العلم.

ان بغداد في عهد الرشيد كانت مركزا مهما يشيع منه العقل والعلم وترجمة الكتب اليونانية القديمة، وكانت اهم شأنا من باريس. باختصار شديد، كانت بغداد في النور في حين كانت باريس في عصر الظلمات، ولقد صدق من قال، ان العلم نور والجهل ظلام.  

 

د. لؤي محمود الجاف

*رئيس المركز الفرنسي الكردي للعلوم والثقافة في باريس

صحيفة (الاتحاد) البغدادية

شاهد المزيد

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket