مستقبل العراق بين ساحة التحرير و المنطقة الخضراء

الاراء 03:34 PM - 2019-12-24
مهدي محيي الدين الهاجات

مهدي محيي الدين الهاجات

ربما هناك من يعتقد بأن الأزمة السياسية والإدارية في العراق قد بدأت منذ أشهر أو أسابيع لكن الواقع ومجرياته تؤكد بأن هذه الأزمة قد بدأ العد التنازلي لها منذ أن استلم الرئيس السابق صدام حسين السلطة وتفرد بها وبدء يهدم ويحرق كل ما له صلة بعُرى الأخلاق أي ما تبقى من مبادئ في المجتمع بعدما تعرض له الشعب العراقي من ثورات دموية و صراعات سياسية قبل مجيئه ، هذا من جانب ومن جانب آخر قام بحرق وتبذير أغلب الإمكانيات المادية ومعها إمكانيات بشرية لا تُعوض أبداً ، في حروب ومغامرات جعلت من الشعب العراقي الخاسر الأول وفي كل الجوانب ، وقد توج دورهُ بالعمل على دوام  الحصار الجائر الذي فرضه مجلس الأمن الدولي على العراقيين وزيادة وقع تأثيره عليهم برفضه آلية النفط مقابل الغذاء التي كانت موجودة ضمن قرارات فرض الحصار منذ البداية .

أن ما نراه ونلمسه وعانينا ونعاني منه الأمرين ، كان وما يزال السبب الرئيسي له هو حالة ضياع وتهرؤ النسيج الأخلاقي ضمن المجتمع العراقي والسبب الرئيسي هو الحصار الموصوف أعلاه، هذه الحالة التي جعلت ، الفساد وفي كل الجوانب والمستويات يستشري وينتشر في كل شرائح المجتمع العراقي من البائع المتجول الذي يُريك جانب من بضاعته ويبيعك الجانب التالف منها ، للمعلم والمدرس الذي يهمل ويبتز طلابه إلى ضباط وأفراد الشرطة والحكام في المحاكم ، إلى الوزراء ونواب البرلمان وإلى أعلى سلطة في البلد !!!.

بعد هذا العرض السريع والمقتضب لصورة الواقع اليومي الذي عاش ويعيش فيه العراقيين منذ عقود الآن سنتمعن بحال ساحة التحرير ومرتاديها ، بعدما عاثت آفة الفساد وأنتشر الظلم و الإبتزاز وأستشرى الإجحاف بكافة حقوق المواطنة ضمن الشعب العراقي من قبل أغلب الأحزاب والسلطة المنبثقة عنها ، بدء الشارع العراقي يغلي ثم إنفجر لكن بشكل محسوب ، أي تحلى بسمات التنظيم وتقريباً بعيد عن الفوضوية ، لكن مع الأسف ومنذ بداية الانتفاضة الشعبية في روحها التي يكون الشعب الشريحة الأساسية المكونة لها، بدأ الدم العراقي يسيل مجدداً على يد خفافيش الليل الغادرين أو مباشرةً برصاص الأجهزة الأمنية ، من التي تُدار من بعض الأحزاب التي تصطاد في المياه العكرة، هكذا تخضبت ساحات وشوارع الكثير من مدن العراق بدماء الآلاف من الشهداء والمصابين غدراً ، فقط  كونهم يُطالبون بأقل حقوقهم وهي المواطنة والوطن !.    

هنا يجب أن نطل ولو من نافذة صغيرة على المنطقة الخضراء وأهلها ، وهيَ موقع وبؤرة من يحكم العراق ، أن ما يجب التَمعن به وتحليله هو الوضع الجديد والغير منطقي الذي يرتسم على عموم الصورة السياسية والإدارية ، أي الواقع العملي ضمن ما تطبقه أغلب الكتل السياسية تحت الطاولات ودهاليز وأركان الفساد ، فهم يُتاجرون ويبتزون في كل المجالات ، خاصة ضمن نشاطات الدولة من أعمال تأمين جميع الخدمات العامة وبناء البُنا التحتية المدمرة ، وتأمين مستلزمات المؤسسات الدفاعية ، فكل شيء لا يمر دون أن يبتزون و يأخذون الجزء الأكبر من المخصصات المالية هذا إن لم يستولوا عليها كلها، فالمناصب الصغيرة والكبيرة عسكرية كانت أم مدنية لها أسعار أي أنها تُباع وتُشترى، وكل أنواع العطاءات والمناقصات والمزايدات الصغيرة والكبيرة لا تمر دون أن ينال الفاسدون حصصهم الكبيرة منها، ومن جانب آخر ما تُبديه الشخصيات السياسية وخاصة  مِمَن ضمن السلطة ولها مناصب حساسة، فأغلب هذه الشخصيات ومن خلال التصريحات الرسمية العلنية تؤكد وجود الفساد والفاسدين ومنهم من يروي روايات حقيقية عن صفقات وبمبالغ ضخمة تُسرق وفي أغلب الأحيان بحضورهم ، من قبل شخصيات ذوات مناصب إدارية وسياسية دون ذكر الأسماء وهناك منهم من لا ينفي الفساد عن نفسه ، لكن لا أحد منهم أي لا الشاهد ولا السارق ولا حتى المسروق يُحرك ساكناً، وهناك الكثير من هذه الشخصيات تُدان وتصبح تحت طائلة القانون وبأحكام مخلة بالشرف وحتى تدان بالخيانة بتعاملها مع الإرهاب، لكن سُرعان ما نجدها تعود ضمن الساحة السياسية وتنال ربما منصباً أكبر، والأنكى لقد تم قبل سنوات وخلال شهورٍ قلائل غزو واستباحة ربما أكثر من ثلث العراق ، وقُتل وسُبيَّ عشرات الآلاف من الشعب ودمرت الموصل والرمادي ومئات الأقضية والنواحي بقراها، وأستوالى الإرهابيون على معدات وأسلحة بكميات هائلة ومبالغ ضخمة وربما قد تُركت لهم عمداً ، ولحد الآن لم يُعاقب المقصرين ولم تكن هناك أي محاكمة أو قضية جدّية لهذه الجرائم !!.    

نعم كديدننا نحن الشعب العراقي كلنا نتغنى بالمثاليات وندعي عصمة ونزاهة الأنبياء لكن أغلبنا نتبنى كل أشكال الفساد لتمشية مصالحنا، نعم أغلب غالبية السياسيين رغم أن الكثير منهم له أكثر من جنسية ، لهم هذا الديدن المقيت.

نعود إلى ساحة التحرير، بعدما بيَّنا بعض ما في دهاليز الخضراء، مَن هُم المتواجدون في ساحات الاعتصام وخاصة التحرير ،  يُمكن القول أن أغلب غالبية من في ساحات الاعتصام     

هم من تلك الشرائح المسحوقة والمغبونة والموتورة في كل شيء بسبب استشراء الفساد والفاسدين وكما وصِفَ أعلاه، فلا فرص عمل ولا حقوق إنسانية و لا خدمات كما يجب حتى وجدوا أنفسهم في وضعٍ  يفرض عليهم الصراخ والخروج للمطالبة بما لهم من حقوق في بلدهم الذي يتصدر دول العالم ثروةً وموقعاً وإرثاً معنوياً وحضارياً.

 هنا يجب النظرُ بجد للصورة ، هل يُمكن عملياً لهؤلاء أي المعتصمون المتظاهرون  أن يخرجوا كما نراه منذ أسابيع ؟ ، أغلب مفردات المنطق تقول لا، فهكذا نشاطات وحَراك شعبي ضخم بحاجة كبيرة لتنظيم وإدارة ومصاريف وتوجيه وقبل كل شيء إلى ممول وداعم مادي وسياسي ،  .

   قد لا يكون من المهم أن نجد من الذي خطط ودعم هذا الحَراك ، بل المهم مدى فعالية ما ستفرزه النشاطات والمجريات اليومية من ضغوط باتجاه الوصول للإصلاح الذي قد يكون الأداة لإزالة الظلم والغبن عن عموم شرائح الشعب العراقي وخاصة الشريحة الموصوفة أعلاه ، وبعدما رأينا شكل وحال الفعاليات اليومية للمعتصمين والمتظاهرين وما يُقابلها من ردود أفعال من السلطة و مؤسساتها والأحزاب و شخصياتها ، وقبل هذا مدى مُلائمة و فعالية المطالب المرفوعة من قبل المتظاهرين عملياً للوصول للإصلاح المنشود ، وقبل هذا وذاك وبعد فترة ال8 أسابيع الماضية ما هي الافرازات الإيجابية لهذا الحراك ؟؟.

باختصار ، أن أهم ما تبناه هذا الحَراك الشعبي من مطالب هو إسقاط الحكومة وتغير الدستور و المؤسسات الرسمية المعنية بوضع وإدارة آلية الانتخابات، وإجراء انتخابات مبكرة تحت إشراف دولي ، ويجب أن يكون المرشحين مستقلين ولم يسبق لهم بتولي أي منصب ، والمهم هنا أن نسأل من قام بوضع وصياغة هذه المطالب والأهداف ؟ فلحد الآن على حد علمي لم تكن هناك جهة محدد و معروفة بذاتها تتبنى تمثيل هذا الحَراك ! . 

لنترك الإجابة على سؤال من هي الجهة التي وضعت هذه المطالب ،، ولنركز على مدى فعالية هذه المطالب وبشكل عملي على تغيير الواقع ورفع الظلم من خلال إزاحة الفساد والمفسدين. 

بشكل سريع ، أول تداعيات هذا الحَراك الشعبي وبصورة عملية هو استقالة رئيس الحكومة السيد عادل عبد المهدي ، وإدخال موضوع تغير مفوضية الإنتخابات ضمن أعمال البرلمان.

هنا يجب الوقوف والتركيز على تنحي رئيس الحكومة هل هو إيجابي أم سلبي ؟ نعم كان مطلب استقالة عبد المهدي من المطالب التي رُوجَ لها بشدة وخاصة من قبل كتلة سياسية كبيرة ورئيسها، وحتى من قبل شخصيات محسوبة مباشرةً على الحراك الشعبي ، لكن هل كان هذا المطلب حيادياً أو حتى مُناسباً ؟؟ برأيي لا ، فالمعروف عن السيد عادل عبد المهدي عموماً هو الأقل فساداً وهو من السياسيين الذين حسب علمي قد استقال أكثر من مرة من منصبه وهذا شيءٌ نادر ، وكان شبه مُعتكف وباعتقادي أن تكليفه برئاسة الحكومة وتكليف الدكتور برهم صالح لرئاسة الجمهورية لم يكن من قبل الكتل السياسية بل شيءٌ كان وما يزال يكتنفه الغموض، أن المطالب التي يتبناها المتظاهرون برأيي لا يُمكنها أن تغير الواقع وعلى أقل تقدير حتى على مدى سنوات ، حيث أن أُس العلل التي يُعاني منها الشعب العراقي هي ضياع المبادئ والأخلاق عند الأغلبية وكما أسلفت أعلاه ، بشكل جعل من إيجاد البديل ضمن الساحة السياسية صعب جداً جداً ، فمطلب تغيير الدستور غير واقعي في هذه المرحلة حيث العلة لم تكن في الدستور بل في من يُطبقه ولم تكن بشخصية عادل عبد المهدي بل بأخطبوط الفساد الذي له آلاف مؤلفة من الفاسدين والمُفسدين، ومن أين نأتي بمفوضية انتخابات مستقلة وليس لدينا شخصيات أكاديمية مستقلة لا يُمكن الضغط عليها من هذا أو ذاك . 

مع الأسف فالفقير يُريد أن يغتني بأي وسيلة ، والغني يُريد أن يكون قاروناً وطاغوتاً والكل ينتقد الفساد والمُفسدين لكن الكُل فاسد لأتفه الغايات . 

أن هذا الحَراك الشعبي الذي يجتاح وسط العراق وجنوبه، ضحى ويُضحي أبناء الشعب العراقي من المظلومين والمنكوبين المضنوكين لإدامته بدمائهم، ويتعرضون لأجله للقتل و للبرد و العناء والمطاردة ، فرغم ما أسلفت أعلاه أصبح و سيستمر كشعلة تُنير درب الوصول إلى الإنصاف شعلةً نورها يجعل الكثير من حقائق الواقع المؤلم الذي يحيا ضمنه الشعب العراقي مكشوفة ومرئية للكل فاضحةً كل جوانب الفساد وأهله.      

 

مهدي محيي الدين الهاجات

شاهد المزيد

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket