في رثاء الرئيس مام جلال

تقاریر‌‌ 04:48 PM - 2019-10-02
الرئيس الراحل مام جلال

الرئيس الراحل مام جلال

اعد (الانصات المركزي) النشرة اليومية للاتحاد الوطني الكوردستاني ملفا عبارة عن مجموعة مقالات في رثاء فقيد الامة الرئيس مام جلال، بمناسبة مرور سنتين على رحيله.

مام جلال.. لن نرى مثله

*جهاد الخازن 

خسرت صديقاً عزيزاً برحيل مام جلال طالباني عنّا. عرفته رئيس حزب، وعرفته مشرداً أيام صدام حسين، ثم عرفته رئيساً للجمهورية العراقية بدءاً بسنة 2005 مدة أربع سنوات، وبعد التجديد له لولاية ثانية على رغم مرضه.قال لي يوماً إنه حاول دخول كلية الطب في جامعة بغداد، إلا أن النظام حال دون ذلك. هو تخرج من كلية الحقوق وكان عضواً في نقابة المحامين العراقيين وأيضاً نقابة الصحافيين. وبما أن دراستي في الجامعة كانت أدبية فإنني أقول عن ثقة وخبرة إن معرفة جلال طالباني باللغة العربية فاقت معرفة العرب أنفسهم، من صدام حسين وحتى رئيس الوزراء نوري المالكي.رأيت مام جلال في شمال العراق، وقبل ذلك في عمّان وبيروت، ورأيته بعد ذلك في نيويورك عندما كان يشارك في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة. كان يزوره بعض كبار المسؤولين الأمريكيين وأعضاء الكونغرس، وكان يصرّ على أن أجلس قربه في كل جلسة حديث أو غداء أو عشاء. أيضاً رأيته في لندن، وكان يرافقه الزميل كامران قره داغي الذي عمل في «الحياة» ثم انضم إلى حكومة الكرد ناطقاً باسمها.ولا أنسى يوم زرته في مقر له على ضفاف سد دوكان. هو لم يصدق أنني في شمال العراق ونزل لابساً ثياب النوم (بيجاما). كان معنا فريق تلفزيون لإجراء مقابلة واستعنت برئيس وزراء منطقته في تلك الأيام الأخ برهم صالح لإقناعه بارتداء سترة. هو لبس سترة ونسي أن يلبس حزاماً على البنطلون، فكان إذا بدأ البنطلون في الانزلاق عن خصره يمسكه بيده ويرفعه.يفترض في رئيس جمهورية، وقبل ذلك رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني، أن يكون على قدر كبير من الجدية في طلب حقوق الكرد. هو كان كذلك إلا أنه كان خفيف الدم أيضاً. لم أره مرة إلا وهو يحمل لي طرفة (نكتة) عنه يرددها الناس. لن أعيد سوى زجل حكاه لي يوماً زاعماً أن العراقيين يرددونه هو: لا قصر ولا حصران / لا عندنا بردي / فوق القهر والضيم / ريّسنا كردي.

انسوا «الزعيم الأوحد» وانسوا مَن سبقوه وتبعوه. جلال طالباني كان أفضل رئيس عرفه العراق، فقد كان للكرد إلا أنه أيضاً لكل مواطني العراق، وأستطيع أن أقول واثقاً إن لغته العربية كانت أرقى أو أصح من كل العرب في السياسة حوله مثل نوري المالكي وغيره.

هل كان مام جلال أيّد الاستفتاء على الاستقلال الذي أجراه الكرد هذا الشهر؟ أعتقد ذلك. رئيس الكرد مسعود بارزاني أصرّ على الاستفتاء على رغم معارضة أمريكا وأوروبا وتركيا وإيران، والنتيجة جاءت وفق المتوقع، فقد أيّد 92 في المئة من السكان الاستقلال، على رغم صعوبة تحقيقه وصعوبة العيش في كردستان مستقلة، فهي أولاً معزولة عن بقية العالم بين دول تناصب الكرد العداء، وهي ثانياً لا تستطيع مواجهة تحالف عسكري ضدها بين حكومات بغداد وطهران وأنقرة وعرب كثيرين لا يؤيدون الانفصال. ثم إن نفط شمال العراق لا مخرج له على البحر إطلاقاً إلا عبر سورية أو تركيا (إيران بعيدة)، وأجد مستحيلاً أن تقبل تركيا ذلك، فقد أوقفت تصدير نفط شمال العراق عبر خط أنابيب يمر بها، كما أنها تخاف أن ينتقل «وباء» الاستقلال من كرد العراق إلى كرد تركيا، وهم كثر في شرق البلاد، ويضمّون حزب العمال الكردستاني الذي يقوم بعمليات إرهابية بين يوم وآخر.كنت أتمنى لو رأيت مام جلال مرة أخيرة قبل وفاته. وتمنيت ولا أزال دولة مستقلة للكرد في مناطقهم من تركيا وسورية والعراق وإيران، فقد ظُلِموا عقوداً، وربما قروناً، وهم يستحقون العيش في بلاد لهم.قبل هذا وذاك أترحم على الصديق العزيز الوطني الكردي والعراقي مام جلال طالباني.

*صحيفة (الحياة)


جلال طالباني... مات العقل الكردي

*حسني محلي

على الرغم من انخراطه في العمل السياسي وهو في الثالثة عشرة من عمره، كان جلال طالباني رمزاً للعقل والهدوء الكردي الذي كان كافياً لانتخابه رئيساً للجمهورية العراقية عام ٢٠٠٥، بقبول كل الأطراف وتأييدهم.

طالباني الذي انتُخب عضواً للجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكردستاني، وهو في الثامنة عشرة من عمره، لم يبتعد من محيطه العربي حتى عندما كان منخرطاً في نشاطه السياسي السري عندما كان طالباً في كلية الحقوق في بغداد (1953 ــ 1958) حيث عمل صحفياً بعد ذلك.علّمته هذه الكلية ومهنة الصحافة أن يكون أكثر موضوعية من رفاقه الكرد الأكثر تعنّتاً في قوميتهم، ليس فقط بسبب الاختلاف معهم في التوجه السياسي، بل بسبب سلوكه الشخصي الهادئ والموضوعي. «مام (العمّ) جلال» كان متشجعاً دائماً للحوار والنقاش مع كل ضيوفه والمقربين منه. اختلف مع القيادات الكردية في مختلف الأوقات، حتى في موضوع الحكم الذاتي للكرد الذي اعترف به الرئيس الراحل صدام حسين في آذار ١٩٧١، حيث غادر العراق إلى بيروت ممثلاً عن الحركة الكردية. كان له رفاق كثر في العاصمة اللبنانية. علّمهم الكثير عن هذه «الحركة» وتعلّم منهم عن الإخاء الكردي ـ العربي ومشاكل الأمة العربية التي كان متحمساً لها أكثر من شخصيات سياسية عربية.

من بيروت انتقل إلى دمشق واشترى فيها بيته الأول حيث احتضنته هذه العاصمة في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد. وكانت له صداقة خاصة معه لم ينسَها، وبقيت صورته الأولى مع الأسد معلّقة في مكتبه في السليمانية. كانت أجواء دمشق كافية لتشجعه مع مجموعة من رفاقه الكرد على تأسيس حزب الاتحاد الوطني الكردستاني عام 1975، وانتُخب أميناً عاماً لهذا الحزب الذي بقي زعيماً له حتى وفاته.

كانت دمشق من أولى المحطات العربية التي زارها طالباني بعد انتخابه رئيساً للجمهورية العراقية وفاءً منه للدعم الذي قدّمته سوريا له وللحركة الكردية. وربما كان الوحيد من الرؤساء الذين راهنوا على بقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة بعد «الربيع العربي». وهذا ما قاله للرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما بداية عام ٢٠١٢، طالباً منه الكفّ عن التدخّل في سوريا لرؤيته الموضوعية لخطر التيارات الإسلامية المتطرفة.

في العراق، لعب دوراً أساسياً في تحقيق المصالحة الوطنية بين كل الأطراف عندما كان رئيساً للجمهورية، وساهم في حلّ الكثير من مشاكلها بعد أن رفض أن يكون أداة في تمزيق وحدة البلاد، خلافاً لمسعود البرزاني، منافسه السياسي الدائم.رفض طالباني إعطاء أيّ دور سياسي لولديه قباد وبافل، قائلاً: إنّ العراق والاتحاد الوطني يكفيه طالباني واحد. واستغل البرزاني مرض «غريمه» بعد أن أصيب بجلطة في الدماغ في ١٧ كانون الأول ٢٠١٢، ليقنع ابنه قباد بأن يكون وزيراً في حكومة نجيرفان البرزاني. فعمّ الأخير، مسعود، نجح في استمالة العديد من قيادات «الاتحاد الوطني الكردستاني» الذي يعاني من مشاكل داخلية كبيرة تهدد بتمزيق وحدة الحزب، وربما نهايته رويداً رويداً. فهو أصيب بالشلل مع مرض زعيمه في كانون الثاني ٢٠١٢، والعلاج في ألمانيا سمح له بالعيش حتى هذا اليوم، لكنه لم يشفه حتى «ينقذ» بدوره العراق من ورطته الحالية، ومغامرات البرزاني التي كان دائماً ضدها.

غياب طالباني سيظهر المزيد من «العقل الكردي الطائش»، والساحة تفتقر إلى شخصية تمنع البرزاني من مغامراته (التي يشجعه عليها كثيرون من أمثال برنارد هنري ليفي بطل سناريو الربيع العربي الذي اعتبر طالباني أنه «جهنم» سيطاول الكرد أيضاً). كان الرجل مع «الأحلام التاريخية» ومتشجعاً لها أكثر من أي طرف آخر ولكن بجوانبها الإنسانية... حتى يعيش العرب والكرد والفرس والأتراك معاً.

*صحيفة الاخبار اللبنانية 


وداعا مام جلال

*زهير كاظم عبود 

انتهت رحلة العمر وتوقف القلب الكبير النابض بالمحبة ، وحلقت الروح التي تميزت بمرحها في سماوات كردستان ، تدور فوق قمة جبل أزمر ، ثم تحط على صخور أحمد أوا ، وعين على كل العراق ، انتهت رحلة العمر التي توزعت أيامها بين الجبال والرصاص ، والشعر والأصدقاء ، والضحكة التي تخرج من القلب فتبدد كل لحظات الحزن والقنوط وتزرع الأمل والبسمة . كنت حميميا ودافئا ، علمتك التجارب أن تفهم خصمك ورفيقك ، وميزتك الأيام بأن لك القدرة أن تجعل كل من يلتقيك يتعلق باسمك ، ويحترم تاريخك وذاكرتك ، تمكنت أن تكتب أسمك بين أسماء من أحبهم كل أهل العراق ، وتمكنت أن تجعل  كل الجهات والاتجاهات المتباينة تميل أليك  ، فتكون أنت مركزها ورحاها  ونقطة الجذب إليها ، ووحدك كنت مفكك العقد والإشكالات التي واجهتنا ، خسارتنا ليس في رحيلك فالكل يرحل إنما الإشكال في زمن رحيلك ، حيث أن  افتقادك في هذه الظروف المتشابكة والمعقدة عصي علينا ، فنلوي رقابنا ونتلفت لعل أمل قادم ورجل يحل محلك ، لكننا وكعهدنا بك تترك لنا ضحكتك المجلجلة ، وترطن لنا بكردية ليس أجمل منها أبيات الشعر العربي التي تحرص أن تحركها أواخر كلماتها  بدقة  يحسدك عليها العربي . 

لم تحدثنا عن مقارعتك للظلم والدكتاتورية والاستبداد  ولم نسمعك متبجحا أو متفاخرا ، كان كل حديثك عما سيصير إليه الحال ، حالما ببلاد تغطي سماواتها الديمقراطية ، ويتوحد بها العرب والتركمان والكرد ، ويتسع صدرها لكل الأقوام المتنوعة التي سكنت هذه البلاد ، وعزفت أن تكتب مذكراتك لأنك صريح وشفاف ، ولأنك لا تريد أن تمس أحدا بسوء ، ولأنك تنتقد كل الأخطاء التي مارسها السياسيون ، مهما كانت توجهاتهم أو ألوانهم ، تنتقد حتى رفاقك وذاتك ، وتلك من شيم الثقة بالنفس ، وتلك أيضا نزعة إنسانية لم تتخلى عنها . 

أيها الصديق العزيز نم قرير العين بعد أن أديت ما عليك ، وكنت حاضرا في ذاكرة تاريخ لم يقف أجلالا إلا لعدد محدود من قيادات أهل العراق ، كنت من بينهم ، وحق فيك قول شاعر العرب الأكبر محمد مهدي ألجواهري : 

شوقاً (جلالُ) كشوق ِالعين ِللوسن      كشوقِ ناءٍ غريبِ الدار للوطن

شوقاً إليك وان ألوت بنا محنٌ              لم تدر ِ أنا كفاءُ الضُّرِّ والمحن

يا ابن الذرى من عُقاب غير مصعدةٍ         شمُّ النسور به ، إلا على وهن

وحسبُ شعريّ فخراً أن يحوزَ على         راو ٍ كمثلك ندب ٍ ، مُلهمٍ فطن

نم قرير العين لكننا لم نزل بأمس الحاجة لحكمتك وتجربتك وقيادتك ، فقد علمتنا الدروس بحاجتنا إلى الحكمة ، ولين الموقف دون أن نفرط بالمباديء ، ودون أن نخسر بعضنا ، فأنت تجيد اللعبة ، وتتوسط المغامرين ، فتجمع الأضداد ، وتفكك كل العقد التي يبدو لنا أنها عصية ، فصرت كما يدعونك حلال العقد او المفتاح ، وتلك مأثرة أخرى نتذكرك بها مثلما نتذكر نكاتك وطرائفك التي تتحدث بها . 

وداعا ايها الصديق الغالي ، ولعلي اخفف من وجعي أنني التقيتك مرات عديدة ، قبل وبعد سقوط الدكتاتورية ، ثم تكررت زيارتي لك وأنت رئيسا لجمهورية العراق ، وجدتك أكثر حميمية وتواضعا ، وحزنت حين علمت بخبر مرضك اللعين ، وتمنيت لك الشفاء العاجل ، ثم كانت زيارتي الأخيرة  وأنت في أيامك الأخيرة  تحت سيطرة المرض ، وكنت تلح أن أبقى وقتا أطول ، وأنت من النوع الذي لا يمل من جلستك أحد ، حتى وأنت مريض  ، لكنه القدر المحتوم أن ترحل عنا فتزيدنا مرارة وحزنا ، مع إنني أثق بأنك تبتسم لنا كعهدنا بك ، وهي أيام قدر لك أن تكون لها ولم تكن عليك فترحل وأنت يحبك الجميع ، وكتبت سفرا  طويلا من أيام  النضال والكفاح والثورة ، وأمانة الحق والأيمان بالعدالة ، وأنت تترجم ما تعلمت من دروس في كلية الحقوق ، غير أن مدرسة الكفاح والنضال  والمباديء ، وتراب كردستان التي وشمتها في ضميرك ،  وصخور الجبال  التي احتضنتك وعانقتك علمتك المباديء والقيم التي آمنت بها وصيرتها واقعا مع رفاق دربك من بقي منهم ومن رحل قبلك .   

وداعا مام جلال وحتى نلتقي .

*الانصات المركزي

 

رحيل العم الذي لم يشبه أحداً سوى نفسه !

*د. سربست نبي

أفصح التاريخ عن دهائه ومكره ذات يوم حين جعل من الخصم المتمرد والثائر، الذي كان يستثنى في كل مرة من مأثرة عفو شامل يطلقه السيد الطاغية، يغدو هنا سيّد مصيره ومصير الشعب الذي اغتصب الطاغية حق الحديث باسمه لأمدٍ طويل. أخذت هالة الحرية تحوم فوق رأسه وتكلله، في الوقت الذي أصبح الطاغية شاهداً مهزوماً، متجهماً وكئيباً على كل مافعل. وغدا هو هذه المرة تحت رحمة السيد الجديد. كان يستجدي الرحمة منه حينما أصبح عنقه موضوعاً لحبل المشنقة الغليظ. وبدا أن ماض كل منهما كان يشرح لنا بمعنى من المعاني حاضر كلّ واحد على حدة ومصيره. الأول منح ماضيه الكفاحي الشرف لمكانته الجديدة. الثاني ألحق ماضيه العار براهنه المعيش، بل وطبع مكانه القابع فيه بطابع الإذلال، حاملاً معه استبداده القبيح إليه، يرسف في أغلاله وفي أصفاد العبودية، التي طالما قيد بها شعبه.

تلك كانت البرهة الأساسية الفريدة في تاريخنا المعاصر. فبعد سقوط جدار برلين، لم نشاهد التاريخ على تلك الصورة وعلى الوجهة ذاتها إلا مع هزيمة طاغية بغداد وصعود خصمه اللدود والمتمرد دائماً. حلّت الحرية المتمردة محل استبداد منحط فقد سلطانه على الحياة لتغدو الحرية هي السائدة. وتحول المتمرد الكردي والثائر إلى سيد حرّ يصنع مصيره بحرية مع بقية الأحرار. وأصبح منطق الفرد الثائر واقعاً راهناً، في حين أمس واقع السيد المستبدّ منطقاً نافلاً مضاداً للتاريخ وحكمته. أصبح متمرد الكهوف والجبال سيداً على حاضره ومستقبله، وتحول السيد الطاغية إلى شاهد على استعباده الخاص محكوم بماضيه الأشد إرهاباً في التاريخ ومقهوراً على الخضوع له. 

الآن وقد مضى الثائر المتمرد، رحل الزعيم القومي الكردي/ العراقي البارز جلال طالباني، الذي عرف منذ فتوته الباكرة بـ مام جلال. رحل مخلّفاً وراءه جبلاً من التناقضات، على الصعيدين القومي والوطني العراقي، من الصعوبة بمكان التوفيق بينها أو تجاوزها في ظلّ غيابه. رحل في أشد اللحظات المصيرية حساسية بالنسبة لوجود الدولة العراقية وبقائها وأيضاً بالنسبة للمسارات المعقد للقضية الكردية في سوريا والعراق.

عرف عن مام جلال( العم) قدرته ومهارته على إدارة تناقضات الوضع العراقي وتعقيداته بحكمته السياسية ودهائه. و لا أخفي هواجسي وقلقي العميقين من هول الفراغ الذي قد يخلفه غيابه في هذه المرحلة الحرجة والدقيقة من تاريخ العراق وكردستان. الرئيس طالباني كان رئيساً عراقياً بامتياز وقومياً كرديّاً متجذراً في انتمائه إلى أقصى حدّ. انتمى إلى عمق الواقع العراقي والكردستاني معاً في موقف جدلي غاية في التعقيد والكثافة. ولهذا كان قادراً على إيجاد الحلول لكثير من التحديات المستمرة منذ سقوط الديكتاتور. وكان قادراً على الترفع والنأي بنفسه عن الاستقطابات الجزئية، ليبرهن في نهاية المطاف أن الهمّ الإنساني المشترك والشامل هو الأولى برعايته.

لم يتطلع طالباني يوماً أو يكترث بأن يعيش في توافق تامّ، أو يحافظ على وحدة نفسية وعقلية زائفة تسبغ على شخصه انسجاماً شكليّاً، بل على العكس من ذلك، كانت حياته اليومية ومواقفه تتغذى من القلق الذي يعيشه ويحفّزه على التقدّم في حقل خصب وزاخر من التناقضات، التي كان يعيها في كلّ برهة ويواجهها. كان هذا القلق بالذات هو الذي راكم لديه ونمى الحسّ بابتكار الحلول وإبداعها. فقد رفض منذ بداية وعيه مايعرف بالمبدأ الرواقي الأسمى لدى بلوتارخ، أي البحث عن التوافق بين الثوابت الشخصية والسلوك ومعطيات الواقع، رفض المهادنات الخادعة، وفي حالات الصراعات الحادة كان يلجأ إلى التحايل على التناقضات عبر ترويضها وتطويعها، ومن هنا نكتشف أحد ملامح براغماتيته السياسية في المواقف، التي أثارت الحيرة دوماً لدى أصدقائه قبل خصومه. إذ كان أكثر الزعماء الكرد، وربما الشرق أوسطيين، إثارة للحيرة والتساؤل، الأكثر إثارة للذهول والدهشة. وفي عموم الأحوال لم يهتم أن يعيش بسلام أو طمأنينة زائفة أو وئام مع تناقضات محيطه الخارجي التي واجهها في كل حين وأوان. 

وبخلاف ماسبق، فإن الوعي المتوافق، الوعي الذي ينشد الإنسجام المطلق، يستحيل عليه أن يتقدم ويكتشف التناقضات في الواقع. وفي الحالات التي يضطر إلى ملاحظتها، فإنه يلجأ إلى الهروب منها عبر تمييعها أو إظهارها على أنها عارضة، ولهذا هو وعي رجعي ومحافظ وغير ديمقراطي. إنه وعي مزيف، جامد يقف عند برهة ثابتة من التاريخ ويتجاهل السيرورات الواقعية المحيطة به، ومن ثمّ يلجأ إلى إسباغ القداسة على اللحظة التاريخية تلك.

الوعي المتناقض، وعي جدلي، ينطوي على قوة تغيير وتجديد، وهو في الآن نفسه وعي نقدي بالضرورة، ينخرط بعمق في تناقضات الواقع ليبني عليه ويؤسس لتجاوزه. وما ميّز العقل السياسي لتجربة طالباني هو هذه القدرة على اكتشاف التناقضات والتغلب عليها، وفي الحالات القصوى التي كان يضطر إلى تقديم تسويات مؤقتة أو التعايش معها كان يستعين بحسه العالي في التهكم والسخرية منها، وهذا ما أضفى على شخصه طابعاً عرف به خطأ ونعني روح الفكاهة. إلا أنه كان يرنو من وراء التفكه الظاهر ماهو أعمق وأبعد من المرح الاعتيادي، إذ ينطوي روح التهكم عادة على زخم معرفي ووعي هائل مصحوب بحس نقدي يسعى إلى التسامي على المفارقات الجزئية العابرة وإلى تسفيهها بدلاً من الإنهمام بها.

هكذا فقد اختزل مام جلال في شخصه كلّ تناقضات واقعه، الثقافية والمجتمعية والقومية، وتعاطى معها بديناميكية فريدة تنم عن ذكاء عملي ونظري. كانت حياته مسيرة متواصلة في مواجهة التناقضات، وكان دأبه التخلص منها عبر التغلب عليها ومن ثم اكتشاف ماهو أعقد منها. ويمكن اكتشاف أول تناقض واع لديه في طفولته الباكرة، لحظة بدء تكوين وعيه الاجتماعي والسياسي، حينما اتخذ لقب(مام) العم لنفسه، وهو يشير إلى تقدير اجتماعي لايمنحه أقرانه أو أبناء جيله إلا لمن بلغ من الحكمة العملية والاجتماعية مبلغاً، واستطاع أن يفرض قيادته المستقلة وجدارته على الجميع. هنا أخذ وعيه بفكرة التقدم والتغيير ينفصل عن مؤسسة التكية الدينية، التي كان وريثها الشرعي، باتجاه تأسيس شرعية سياسية حداثية لانسب شرعي لها، في تحدّ واضح للمؤسسات الاجتماعية الراسخة والسائدة في زمنه.

التناقض الثاني والرئيس في شخص طالباني، الذي ظلّ ملازماً لسلوكه حتى رحيله، كان تناقض الثقافي والسياسي، ومن خلاله. كان يهدف إلى انتصار قيم المعرفة النظرية على المعايير العملية للسياسية. ولعلنا نفسّر هذا الولع الشديد المعهود عنه بالثقافة والمثقفين بضرورة أن تقدم السياسة والسياسة ضريبة أخطائها البراغماتية للثقافة وتعبّر عن توقيرها الشديد لها، وهذا يشرح لنا انحيازه إلى الرؤية الثقافية والأخلاقية، التي تسعى إلى تأكيد قيم التقدم والحرية والاستقلال والكرامة في نهاية المطاف. فقد ظلّ الراحل وفيّاً لحلم المثقف أكثر من الوفاء لمقاصد السياسي العملية وبرهن طوال حياته على هذا الإخلاص في الهواجس المعرفية والأدبية التي كانت تصاحب نقاشاته وفي ولعه بالكتاب والحوارات، وفي ظنّي كان ثمة شعور لديه، عميق وخفي، قوامه أنه ولج عالم السياسة مكرهاً، وربما مصادفة، أو هي فرضت حاجاتها عليه، ولهذا تعاطى معها بسخرية وتهكم عاليين في العديد من المناسبات، كضرب من الثأر الشخصي من سطوتها عليه.

كان تعاطيه مع السياسة في البداية، كوسيلة لا كغاية، التزاماً أخلاقياً فرضته حاجات قضية قومية وإنسانية، التزاماً بتحقيق الحلم الذي سخّر حياته لأجله. لكن هذا التعاطي تحوّل بعد تجربة الحكم في بغداد إلى فخّ مرهق بالنسبة إليه، يثير عنده التوتر والقلق والانفعال الشديد. وفي أوقات كثيرة كان قادراً على الخروج من حالات سطوة تلك المشاعر السلبية، وعلى توجيه انفعالاته وجهة مختلفة، عبر تعاطيه مع السلطة والسياسة بتهكم ومرح..

وظّف طالباني الثقافة، الأدب والشعر، إلى أقصى حدّ في العمل السياسي، وفي ممارسة السلطة، محاولاً تجريد السياسة، جهد المستطاع، من أبعادها النفعية والمصلحية المؤقتة والفجّة. بخاصة حينما كانت الصراعات السياسية تحتدم في محيطه وتتفاقم، هنا كان يلجأ إلى تقديم الأجوبة أو الحلول في صيغ أدبية أو ثقافية، بغرض تشذيب التناقضات وتهذيبها، وتغليب الوعي على الفعل. إن تناقض الوعي مع الفعل وتغليبه، تناقض الحلم مع الواقع، هو تناقض ملازم لسلوك كلّ مثقف أصيل أكثر مما هو ملازم لعقل السياسي الغارق في الواقعية الفجة. وقد استطاع طالباني أن يستثمر بمهارة فطنته في هذا التناقض ليعيد بناء وعيه بالعالم وصياغته، ويقود التسويات في محيطه الهادر بالصراعات الطائفية والقومية.

تناقض الوطني والقومي كان هو التناقض الثالث الأبرز في وعي طالباني السياسي وفي تجربة كفاحه السياسي، ويعبر عنه بتناقض الخاص والعام. وكان يسعى إلى تخطيه وحسمه باتجاه تغليب الحس الإنساني المشترك والشامل. حيث عايش تناقضات واقعه القومي وتحولاته بعمق وتجذّر أصيل، وعدّ هذا الواقع أساساً راسخاً لكفاحه وعمله السياسي. إلا أن وعيه واجه باستمرار استحقاقات سياسية وإنسانية من محيطه العراقي والعربي والفارسي…الخ كان عليه أن يستجيب لها بقدر كبير من الإلتزام السياسي والأخلاقي. من هذا الموقع يمكن فهم وقراءة درجة تفاعله النشط واستجابته للنضال التحرري للشعب الفلسطيني وجميع قضايا التحرر الوطني والديمقراطي في المنطقة والعالم، ناهيكم بانخراطه الفاعل والحاسم في مواجهة نظم الاستبداد في العراق واسهامه العميق في صناعة التحولات التاريخية التي عصفت بالبلاد طوال ستين عاماً.

في ضوء هذا المبدأ يمكن أيضاً شرح آليات إدارته لمؤسسة الحكم في العراق خلال سنوات رئاسته للعراق، حيث استطاع أن يبرهن للجميع أنه قادرٌ على أن يكون، في الوقت نفسه العراقي الأول، الذي بمقدور العراقيين جميعاً أن يلجأوا إليه ويلقوا بمعضلاتهم السياسية على كاهله كي يجد لها حلاً دون أيّ قلق أو ارتياب في مقاصده العراقية. في الوقت الذي ظلّ فيه الزعيم القومي الملهم لجميع الكردستانيين في العالم.

لقد التزم طالباني بعقلانية واقعية في نهجه السياسي والقومي، إلا أن عقلانيته وواقعيته التي طبعت بطابع براغماتي عُرف عنه، لم تكن في أيّ وقت من الأوقات براغماتية قصدية، إنما براغماتية أداتية، عدّت من السياسة رافعة للتغيير ولتحقيق مآرب تاريخية وإنسانية شاملة. حيث خط لنفسه نهجاً سياسياً تميّز به وانفرد. ومن الصعوبة بمكان اليوم إيجاد نسب سياسي في التاريخ القومي الكردي يمكن عبر الإحالة إليه فهم التجربة السياسية لشخص طالباني، فهي نتاج وحده وهو الأب الوحيد الشرعي لموقفه. وبمعنى من المعاني، يمكن اعتباره أبو السياسة الكردية الحديثة ومؤسسها، لأنه الأول الذي وضع السلطة نصب عينيه كمنصة للتحرر القومي، وقد استطاع أن يحقق ذلك جزئياً وإن كانت بقوائم عربية وفي عاصمة كانت تعدّ قبلة العروبة في وقت من الأوقات.

رحل طالباني، العم والزعيم، أخيراً، فمن يجرؤ اليوم، من بعده، على الإدعاء بخلافته، أو بتمثيل تركته السياسية أو دوره؟ من هو القادر على التصدي لعبء التناقضات التي كان الراحل يتعاطى معها بمهارة وحذق ويتخطاها؟ من يستطيع أن يتخلص من شبحه أوظلّه الذي سيظلّ يحوم فوق رؤوس الجميع لأمد طويل، حتى يغدو قادراً على التصرف وحده من دون العودة إلى الشرعية التي خلّفها وراءه؟

*PYDrojava


مَن فرّطَ بـ"شَدّة ورد" مام جلال، ومَن أطفأَ وهجَها..؟!

*فخري كريم 

في لحظةٍ توحي بتلازمها مع ما انتهت إليه " شدّة وَردِه" التي لم تفارقه، حتى وهو يتعالى على ما أُصيب به من وجع الضيم الذي حلّ به بعد أن صار يقاوم "عُقدة لسانه"، وقد تحجّرت معها مسالك تدفّق حوامل القيم والأفكار وتجليات الدفء الإنساني.

لكنّ بريق عينيه، وابتسامته، وتلويحاته الموحية، تجاوزت عقدة لسانه طوال المِحنة التي ألمّت به، فصارت هي بحدّ ذاتها لغته البليغة التي لم تُخفِ معانيها عن أحبّته وأصدقائه ومريديه . 

وحين كانت ملامحه تتغَيّم، ويتبدّى الحزن فيها، كانت تلك إشارة التقاطه لصورٍ مكدّرة لما آل إليه الصرح الذي ساهم ببناء أسسه الواعدة بالدولة الوطنية الديمقراطية، دولة المواطنة والحريات والقانون، مع رفاقه ومَنْ " توهّمَ " أنهم شركاء، "شراكتهم لا تقبل القسمة على الخرائب"، وستبقى ذاكرتهم مشغولة بالانشداد لزهو الأيام الخوالي والوفاء لها، وأنهم لن يرتدّوا على ما تعاهدوا عليه من تكافلٍ في بناء وطنٍ لا تُصدِّعهُ " مهارات" مُغامرٍ مهووسٍ بالسلطة، أو ناكرٍ لتاريخٍ تعَمَّدَ بالدم الزكي، أو مستقوٍ بماضٍ لم يخلّف سوى الخراب والدمار، وموروثٍ من حُطام كلّ المستبدّين على مرّ التاريخ وتقلباته .

رحلَ مام جلال، وكأنه كان يَمنُّ علينا برفقة محفوفة بتحد يطول ما تناثر من أوراق " شدّة وردهِ " التي جفّت وعصفت بها رياح الخديعة وأطماع اغتيال الحلم، ولما تعرّضت له من جفاءٍ وإنكارٍ واستهدافٍ غادر تحيط به الشبهات من كلّ صوب. لعلّه أراد أن يُغلق عينيه قبل أن تأتي " صولة فرسانٍ " متعامية، على ماتبقّى في بريق عينيه من وهج الأمل وجذوته المستعصية على الانطفاء  .

كان عراقياً شديد الاعتزاز بقوميته الكردية، لا يتردّد عن القول "إننا سنبقى في وطنٍ واحد، مادام شركاؤنا يحرصون على أن يكون العراق للجميع. وسيكون للجميع، إذا لم ننكفئ على ما تعاهدنا عليه في أن يكون العراق الجديد ديمقراطيّاً، تحكمه قيم العدالة والمساواة، وتترسخ فيها المواطنة باعتبارها قاعدة الحكم ومصدره، وأن تنأى عن النزوع  نحو تغليب الطائفية والمذهبية عليه، وأن تقاوم الاستقواء بالسلطة لمصادرة الغير، وأن تدرأ مغامرة الطامعين بالسلطة المجبولين على شهوتها وفسادها ."

 ظلّ مام جلال يُغالي بانفتاحه على الشيعة حتى أنه كان يُردّد حين يُسأل أنه " شُنّي"! وكلّما يلتقي القادة العرب والأجانب يسرد عليهم سيرة الإمام الحسين وآل البيت، ويفنِّد المزاعم التي تمسّ الانتماء الوطني لشيعة العراق وما يقال عن "فارسيّتهم" وانحيازهم للمصالح الإيرانية على حساب المصالح العراقية، ويُعيد إلى الذاكرة أنّ أئمّة الشيعة كلهم مدفونون في العراق باستثناء الإمام الرضا، وهم كلما يزورون مرقده يردّدون: " يا غريب الدار"..!

لم يكن يريد الخروج عن وحدة الصف الكردي - الشيعي حين تبنّى في لحظة يوشك العراق فيها على الانهيار، فلم يجد وسيلة لوقف الانحدار سوى بإجراء تغييرٍ لمن وجد فيه السبب، ومن لم يستجب لكلّ ما بُذل معه للتراجع عن نهجٍ وسياسةٍ تُنذر بخطر وخيم، وحين تراجع تحت ضغطٍ واعدٍ بالتغيير، استُقبِل بغدرٍ مضاعفٍ ممّن لم يكن له أن يحلم بما تبوّأ حتى في حلم ليلة صيف .

كانت صدمة الغدر عميقة، تُنبئ بغدرٍ على مساحة الوطن، على امتداد عراقِ بدّدَ الحلم فيه الأفّاقون، الفاسدون، المقطوعون، خلافاً لما يظهرون عليه من شجرة الأئمة وقيمهم وتضحياتهم وأياديهم البيضاء غير الملوّثة بفساد السلطة وجرائمها وارتكاباتها ..

رحل الرئيس العراقي جلال طالباني الذي انضمّ إلى المقاومة الفلسطينية، مقاتلاً إلى جانب مناضليها، مردّداً أنّ "انتمائي القومي يُؤكد عمق انشدادي إليه، حين أحمل همَّ الشعب الفلسطيني والعربي وأذود عن حقوقهما، ولن تكتمل هويتي دون تجلّي القيم الإنسانية فيها".  

لم تُفارق "المام" الثقة بأنّ الشعب الكردي، إذ ما أراد يوماً تقرير مصيره فإنه سيجد إلى جواره عضيداً من الشيعة قبل غيرهم ..

نَمْ مام جلال قرير العين، فلك فضلٌ فيما أفاق قومك وجعلهم يتنبّهون إلى ما يُحيق بهم من مخاطر وتحدياتٍ، وهم يريدون مجرد البحث عن ذاتهم المأسورة، قبل أن يستغرقهم الحُلُم، دون أن تكون لهم يدٌ في ما يجعل العراق وليمة أغراب يحومون في سمائنا المدمّى بفتن انتقامهم التاريخي ، وجدران كراهيتهم لشعوبهم وتخندقات عزلتهم ..

نمْ، نمْ ، مام جلال ، فكان حريّاً بك أن تغادر الدار الفانية، دون أن ترى عيناك الملتاعتان العجبَ من عدم وفاء من كانوا أقرب اليك، حتى لمجرد أن تُشهرَ كرديّتك ..!

نمْ، مام جلال، نمْ، دون أن ترى بأمّ عينيك ، كيف كنتَ ترفع راية الحسين الشهيد، وكيف يتدافع حلفاؤك الأقربون على ولائم نهش أبناء قومك ، يتنافسون في التحريض على شتمهم  من على منابر الحسين ..!

نمْ، نمْ، متلفعاً بعباءة شعبك، مرفوعاً على هاماتهم، وفوق وجنتيك دمعة وداعٍ، هي إلى الدعاء أقرب ..فنعم نوم المرء في الكرب الجسام، فالجبل الأشمّ سيطوي غداً جثمانك شامخاً غير هيّابٍ ..!

نمْ، فانتَ تغدر بي مثل غيرك، وأنت تختار لحظة غيابٍ في غير أوانه، في وقتٍ لم يعد أن جفًت الدموع في المآقي لكثرة ما حاقنا من بؤسٍ وخرابٍ وفساٍد ولحق بشعبنا من حيفٍ وكراهيةٍ...

نمْ، فقد فعلتها هذه المرة، ولستَ في حالٍ أدعوك فيه لكي تنهض ..

*المدى


فقدنا قائدا لن يتكرر

*عماد علي 

عندما نعيد نظرة خاطفة فقط على محطات حياة القائد الواقعي الاممي مام جلال نتاكد بانه عاش بعقليته التقدمية النموذجية و تعامله مع الواقع و ما حدث في عصر كانت ثقافته و عقليته اكثر تقدما من مرحلته الحياتية و ما اتصف به مجتمعه . انه تعامل مع الاحداث بشكل لم يعقله البعض و لم يتفهمه الاخر الا بعد ان كشف فيما بعد بانه كان على الصواب في تعامله مع الحدث . يمكن ان نتذكر الكثير و منه كيف كان رايه على من ينتقده و يفسح المجال للجميع في بيان رايهم في اخطر المواضيع و حتى على شخضيته، الم يذكر الجميع موقفه ممن انتقد الثورة الكردية و هاج الجميع على ما كتبه و في مقدمتهم المثقفين حتى وصل الامر الى تخوين الكاتب، الا ان القائد مام جلال و بحكمته و تصرفه مع الموقف و نظرته الى ماحدث و كانه امر طبيعي, والمستغرب في الامر بانه اتخذ موقفا مثاليا تقدميا في وضع و ظروف لا يمكن الا ان يتخذه شخص يعيش كالاخرين في زمن ليس الا ان يكون اكثر تقدما من مرحلته، فانه دافع عن الراي المخالف و طالب من المنتفضين على كاتب الانتقاد ان يردوا عليه بسلاحه و هو القلم، ان كان محقا فيقتنع به المنصفين من القراء و ان كان على الخطا فلم يتقبله القاريء او من يسمعه. 

المستغرب في الامر ان هذا لم يحدث في عصرنا هذا الذي يتمتع بالكثير من الحريات و حق الانتقاد المكفول الذي لم يتفهمه حتى قادة اليوم لحد اليوم و انما في زمن كان العقلية السائدة حتى على الثوار هو التزمت و الالتزام براي الذات، و عدم تقبل الراي الاخر كان سائدا في عقلية الجميع، نعم الجميع . الم نتذكر عمق تفكيره و ايمانه بالانسانية و اعتماده قواعد الحياة التقدمية و حقوق الانسان و تعامله مع القضايا و الاحداث بخلفية تقدمية منصفة و غير حاملة للضغينة و الحقد و الكراهية، بل بشاشة وجهه و دماثة خلقه فرض شخصيته و كاريزماه و لا يمكن ان يبرز مثيلا له الا نادرا . الاهم ان يدرك الجميع بان قراراته العامة و اسلوبه و توجهاته و نظرته الى الاحداث الكبيرة ايضا كانت مبنية على العدالة و الحكم القانوني العادل، و خير مثال عدم نكثه بتوقيعه و موافقته على لائحة رفع عقوبة الاعدام، و اثبت موقفه العقلاني الذي اعتبره صحيحا على الارض حتى مع من كان يكن له العداء و عندما كان رئيسا للعراق اعفى جميع الثوار الكرد و استثنىاه شخصيا من العفو و هو الدكتاتور صدام حسين, فلم يوقع على امر اعدامه. هذا كان في وقت لقد اغضبنا نحن جميعا و تبين فيما بعد بانه كان يفكر في عمق لا يمكن ان نصل اليه نحن و كان يحسب لكل خطوة عن ما يبرز منها من الافرازات و المعطيات و التداعيات و المؤثرات على المجتمع، و سجل مواقف تاريخية لا يمكن ان يكون لها مثيلا حتى عالميا الا نادرا. لما ان نتذكر في بعض محطات حياته الكثير و من خصاله الجميلة هو اعترافه بما اخطا فيه وان حسبناه نحن بانه ليس بخطا، و ما سلكه من الخطوات التي اعتبرها الكثير من غير المعقول وليس لصالحه شخصيا الا انه ضحى بكل ما يمت بصلة بمصلحته من اجل كردستان شعبا وارضا واتضح فيما بعد ان خطوته اصبح منعطفا جميلا لحياة الشعب الكردستاني، الاهم انه تعامل دون ان يحدث ضجة او يبرز من اية موقف له اعتراضا كبيرا من قبل الاخر و كم جمع الاراء و المواقف المختلفة مع البعض. تعامل مع حزبه و شعبه و قضيته بما يمكنهم من الاقتناع ووفق السمات الشرقية التي يتمتع بها الشخصية الشرقية و الكردية بالذات، ولكنه راعى الواقع والموجود واعطى جرع تقدمية متتالية من كافة النواحي السياسية الثقافية الاجتماعية بما يمكن ان يتقبله الواقع الكردي وان كان بعضه على المضض، وخير مثال على ذلك هو موقفه وتعامله مع القضية الاهم في المجتمع و هي المراة والمجتمع. 

على الرغم من ان الصراع السياسي الموجود دائما بين القادة في الحزب الواحد و بين الاحزاب و بالاخص في واقع غير مثالي كما هو المجتمع الكردستاني الذي الذي انبثقت منه الاحزاب، قد يؤدي الى الكثير من التعقيدات و ما كانت عليه الارضية من الابواب المشرعة على تدخل الاعداء، الا انه لم يدع نقطة ما يمكن ان تؤدي الى انهيارات كانت محتملة، و كم انقذ الجميع من المخاطر الكبيرة و الحوادث السياسية بحكمته، وتلمسنا مدى تقدم الشعب الكردي كثيرا في مرحلة حكمه و تسلمه كرسي رئاسة العراق، على الرغم من ان هناك انتقادات كبيرة للقادة الكردستانيين جميعا على التوجه نحو بغداد بعد سقوط الدكتاتورية . من اهم خصلاته الجميلة و الكبيرة و المهمة التي تمتع بها هي معنوياته العالية في اي وقت و بالاخص في احلك الظروف التي كان يمر به الشعب الكردستاني، و في بعض منها كان هو الوحيد المتفائل على ان القضية الكردستانية ستصل الى حال يحقق بها الشعب احلامه و امنياته و اهدافه، و لكن في وقته المناسب, و خير دليل على ذلك هو نظرته الى القضية الكردية في مرحلة مابعد الانفالات و تعرض الشعب الكردي للاسلحة الكيميائية من قبل الدكتاتورية العراقية وفي الانتفاضة و النزوح المليوني فيمابعدها و كيف تعامل مع الواقع انذاك.

*الحوار المتمدن

 

رحيل القطب الهادئ في الشرق الأوسط الرئيس جلال طالباني

*د. سامان سوراني

بعد صراع لسنوات عديدة مع المرض رحل عنّا اليوم السيد جلال طالباني عن عمر ناهز الرابعة والثمانين عاماً. كان الراحل أحد أبرز الشخصيات السياسية في التاريخ الكردستاني المعاصر، عمل في مجال الفكر مع شعوره بأن إتنماءه الأول هو للنوع البشري وأن العالم هو المدي الأرحب لفكره، لا النظريات العقيمة أو الهويات المغلقة، كان يفيد من التجارب و ينفتح علي الحقائق و يشتغل علي التراثات والهويات و يفكر نقدياً علي العقائد والفلسفات، من أجل تحديد عالم الأفكار والمفاهيم ومن خلال الوقائع الفكرية السياسية التي كان يخلقها، مارس أمير الدبلوماسية الكردستانية جلال طالباني فاعليته علي ساحته وفي بيئته و في المدي الإقليمي والعالمي.

كل منّا يعلم بأن كردستان يمرّ اليوم بعد أسبوع من إستفتاء الإستقلال بمرحلة صعبة، حيث تشهد الساحة الإقليمية والعراقية أزمة سياسية حادة، تسيطر عليها أجواء الخوف والقلق والترقب، نتيجة الضغوط التي تمارسها دول الجوار علي الأقليم و الممارسات اللادستورية واللاقانونية من قبل بغداد و محاولات فرض أنواع الحصار علي كردستان بحجة الدفاع عن وحدة العراق، ناهيك عن الهجمات الكلامية المتدنية من قبل بعض اللامسؤولين من الساسة والنواب في العراق للنيل من ممارسة شعب كردستان حقه في تقرير المصير والتجربة الديمقراطية الناجحة في كردستان.

في هذه المرحلة المتشنجة يرحل عنّا وللأسف تلك القوة الخفية، التي أثرت في تاريخ كردستان السياسي وأنهت في السنوات الماضية الكثير من الأزمات السياسية التي عصفت بالعراق.

بإبتعاده عن الدخول في خندق الخصومة وقيامه كصمام أمان بحماية السلم الوطني من خلال سعيه لتقريب وجهات لأطراف المتخالفة تمكن الرئيس جلال طالباني من كسب ثقة العراقيين، الذين إتفقوا عليه‌ كرئيس رغم تعقيدات المشهد السياسي العراقي.

نعم رحيله أصبح اليوم مدار الكلام و محور الإهتمام و ها نحن نسمع من الرئيس مسعود بارزاني بعد ساعات من نبأ رحيل طالباني يقول، “خسارة قائد كـ مام جلال خسارة كبيرة لشعبنا لايمكن تعويضه بسهولة”، معلناً الحداد العام في كردستان لمدة أسبوع.

كان السيد مام جلال (العم جلال) يعرُف كيف تُلعب اللعبة السياسية وكيف تُبني القوة وكيف تُنتج الحقيقة وتُقّر المشروعية، هو أول رئيس كردستاني للعراق، رآه أغلب الجهات المهتمة بالشأن العام، بسبب سعيه إلي تعزيز العيش المشترك بين الكيانات المختلفة في العراق، كقطب هادئ و كصمام أمان، جاء عبر ثقة الشعب بانتخابات ديمقراطية حرة كرئيس لدولة العراق.

مارس الرئيس طالباني السياسة بأسس روحية صافية و واصل العمل السياسي طيلة أكثر من ٦٠ عاماً دون إنقطاع، عاش كمعارض لحكام حصّنوا أنفسهم بإنشاء أنظمة بوليسية كبتت الحريات و منعت التعبير عن الأفكار والآراء و أعتقلت المفكرين و المثقفين، الذين تعارضت أفكارهم المنفتحة مع أفكار أنظمتهم المنغلقة، ليزجوا في النهاية في السجون من دون محاكمة و لتبقي أماكن وجودهم و مصائرهم مجهولة لذويهم، حكام خدعوا شعوبهم بالإدعاء بأنهم أنظمة تؤمن بحقوق الآخرين و تجلب لهم الحريات و الحكم الذاتي وغيرها من الشعارات الخادعة، بينما كانوا في النهاية حكومات فردية تسلطية شوفينية عدوانية بربرية و وحشية، قاوم كقائد وطني تلك الأنظمة القمعية، لذا يمكن إعتبارە واحد من أبرز الشخصيات الكردستانية في التاريخ العراقي المعاصر، جمع خلال عمله السياسي خبرة كبيرة و جربة عميقة و أكتسب حنكة سياسية موسوعية، لذا نري بأن وفاته سوف يعود بنتائج سلبية على العراق، لكنها تصبح فرصة للجهات السياسية المختلفة في كردستان لرص الصفوف وتوحيد الرؤي والكلمة للوصول الي الهدف المنشود و هو إعلان دولة كردستان.

كان الرئيس جلال طالباني يهتم بشؤون الحقيقة والحرية والعدالة، كمثقف نموذجي متفرغ لمهنته، يحيا وسط الأزمة و يساهم في حقل الإنتاج الرمزي، وكان بحق رجل دولة من الطراز الرفيع و عنوان للإعتدال والوسطية، بحث بعد تسنمه مقاليد رئاسة الجمهورية دوماً عن مخارج للقضايا الشائكة بإستعمال الحكمة وتدوير الزوايا و الجمع بين المتناقضات و رفض التحدي و عمل بسبب كونه كردستانياً أن لا يتقوقع في قوميته، لكي لا يحجم موقعه الوطني و دوره السياسي و فضّل كداعية وفاق و محبة أن يدفع من أعصابه و صحته علي أن يدفع العراق من سلمه و إستقراره، نقيضاً لمن يحكم العراق اليوم ويؤمن وللأسف بالظواهر الكُلانية، التي لم تعد تنتج سوي عوائقها و فشلها أو الغامها و إنفجاراتها والذي لا يتورع عن دفع المنطقة نحو الهاوية في سبيل مصالح تهدف وللأسف في بناء السلطة الشمولية.

برحيل السيد جلال طالباني فقد شعب كردستان أحد رموز النضال والتحرير وهو اليوم بأشد الحاجة الي حضوره الفاعل‌.

ختاما نقول: وداعاً وأنت المغادر جسداً والحي فكراً و روحاً بين شعبك ومحبيك.

*موسوعة صوت العراق

 

رحيل جلال طالباني ..رحيل آخر؟

*فاتح عبدالسلام

بالرغم من ان جلال طالباني كان خارج الملعب السياسي في العراق عامة واقليم كردستان خاصة منذ اكثر من ثلاث سنوات بسبب تفاقم مرضه ، إلا إن رحيله اليوم، سيترك فراغاً من الصعب سدّه، لاسيما ان العراق يعيش ازمات متراكبة، طالما كان الرئيس العراقي السابق وزعيم احد الاحزاب الكردية الكبيرة قادراً على منع الوصول الى طريق مسدود بين الفرقاء الذين يغص بهم حكم العراق الآن.

السنوات التسع التي قضاها طالباني رئيساً للعراق، كانت من أصعب الازمنة العراقية، حيث البلاد تحت حكم الامريكان من جهة، وحيث مفهوم السيادة ملتبس والصراع الداخلي وصل الى الحرب الطائفية ، وكانت ايران في أوج صعودها ونفوذها في العراق .. الحلم في أجندتها. لم يكن النجاح سهلاً ، ولم يكن النجاح متاحاً وحين يتحقق بدرجات متدنية لا يكون واضحاً، لأن كل شيء أسود كان طاغياً ، مع موجة من  أشخاص وصلوا الى سدة السلطة وهم يحملون توصيفاً واحداً هو الجهل الممزوج بالحقد والطمع. هنا كان طالباني يحاول الحفاظ على التوازنات بما يجعل السفينة السياسية المثقلة والمثقوبة من أكثر من مكان تسير في هذا البحر الهائج .

كان طالباني قريباً من عموم العرب، وقدم نفسه رئيساً لكل العراقيين بالرغم من صعوبة مهمته في اقناع الناس بدوره ومسؤوليته .

في زمنه، كان كل منصب شكلياً، حيث الحاكم الامريكي بول بريمر موجود أو كان مغادراً وتاركاً خلفه نفوذه ، لكن وجود الراحل طالباني في منصبه ( الشكلي دستورياً) كان له رمزية عالية وفاعلية داخلية واقليمية، لاسيما في العلاقات الايرانية العراقية التي لم تكن ذات هوية أكثر من التبعية، لولا الخبرة السياسية التي كان يتمتع بها.

طالباني كان رجل حوار وحجة، وكان صاحب رأي وقرار، في اطار المشاورات. عينه كانت على كردستان الحلم ، وعينه الأخرى ظلت ترقب وضع العراق المتدهور، حتى الرمق الأخير.

خسارة العراقيين للطالباني مزدوجة.

*رئيس تحرير صحيفة (الزمان)

 

تحيات الاجلال والمحبة أيها الراحل الغالي

*عزيز الحاج

رحل عنا للتو السياسي الكردي العراقي المحنك والمناضل المتمرس ورئيس الجمهورية السابق جلال طالباني، مام جلال، الذي كان محبوب العراقيين وموضع احترام الدول الأخرى.

يرحل بعد معاناة مرضية طويلة وأليمة والعراق بأمس الحاجة لأمثاله رغم انهم قلة نادرة، يرحل والعراق على فوهة بركان حيث قرقعة السلاح وطبول الحرب والدعايات العنصرية الهيستيرية ضد شعب إقليم كردستان لمجرد انه مارس حقا في التعبير عن ارادته، مجرد تعبير سلمي، وسواء كان الاستفتاء في وقته أم لا.

وقد كان من الواجب ان يكود رد الفعل استجابة لدعوات الحوار الودي والصبور ومفاوضات مرنة وبلا شروط. وبلا استعداء وطلب تدخل نظامي الجوار الذين لا يعترفان بأبسط حقوق كردهم، وحيث هناك أكثر من ثلثي عدد أفراد الأمة الطردية البالغ عددهم حوالي 30 مليون نسمة لهم كل الحق في دولة قومية واحدة كما اعترفت بذلك معاهدة سيفر الدولية لعام 1920.

ان الاعتراف بحق كرد العراق في تقرير المصير وحتى الى حد الدولة المستقلة هو حق مبدئي ودولي اعترف به ميثاق الأمم المتحدة. وتبلغ حملة الدعايات الهائجة في بغداد الى حد اقحام إسرائيل في الوسط لمجرد اعلان تأييد الاستفتاء. رغم أن لإسرائيل حساباتها الخاصة لتفسير قيامها. ونعرف مثلا الاستخدام الروسي والبريطاني والتركي وشاه إيران للقضية الكردية وسبق لطالباني ان تطرق الى كل هذا في كتاب هام له صدر في السبعينات. ولكن العنصريين في المنطقة يستغلون ذلك لإنكار وجود قضية كردية واعتبارها مجرد مؤامرة خارجية.

وقد سبق ومنذ عشرات السنين ان اعترفت بحق تقرير المصير لكرد العراق أحزاب ديمقراطية عراقية كحزب الاتحاد الوطني لعبد الفتاح إبراهيم والحزب الشيوعي وحزب الشعب والحركة الاشتراكية العربية لزعيمها النصراوي. وهذا لا يعني ان الانفصال محبذ في كل الظروف وانه الحل الأمثل على وجه الاطلاق، فلكل امر وقته وظروفه، ولو كان العراق ديمقراطيا علمانيا يعامل الجميع على قدم المساواة لكانت هناك حلول مثل الفيدرالية الموسعة والكونفدرالية أي تعايش ودي بين دولتين متأخيتين ومتعاونتين مثل تشيكيا وسلوفاكيا. ان الاستعمال العنفي وتأجيج الكراهية سبيل الى الهاوية وان محاصرة الشعب الكردي جريمة بحق الإنسانية. وها امامنا مثال العنف الاسباني الوحشي الذي يذكر بفرانكو ضد استفتاء شعب القطالوني، إذ ان هذه الإجراءات ستؤدي الى انه حتى غير الراغبين في الانفصال سيؤيدونه ويؤدي الى هوة شاسعة من الكراهية والاحقاد. ويجب عدم نسيان ان سياسات الحكومات العراقية المتعاقبة واستفزازاتها ضد إقليم كردستان كان عاملا هاما في التفكير بالاستفتاء.

وقد سبق انتقدنا ومرارا الجبهة الكردستانية لأنها منذ سقوط صدام وضعت كل "بيضها" في سلة الأحزاب الطائفية المهيمنة بدلا من تعزيز التحالف مع القوى الديمقراطية العراقية. فإذا بالجزاء هو العقوق والمحاربة.

كان طالباني رجل الحصافة وبعد النظر والمرونة السياسية وصمام الأمان ورجل الوفاق والتفاهم والتسامح. وأذكر أننا، وفي فترة من تاريخ العراق السياسي، تباعدنا مختلفين وبجفاء وكان آخر لقاء لنا في مدينة براغ عام 1964 في الفندق. وحين التقينا عشية الحرب على صدام استقبلني بالأحضان ونسي كل ما كان. وكان فوق ذلك ذا خلق عال ومرحا ويردد النكات عن شخصه وعن الكرد وهو يبتسم.ان احداث اليوم الصاخبة في العراق تثير القلق الشديد وعلى حكام العراق الكف عن الوعيد والتهديد وعن جلب الوصايا الخارجية. إذا كان الاستفتاء في المناطق المتنازع عليها كان يجب تأجيله وحسب البند 140 من الدستور، فإنما ما جرى هو على اية حال كان عملا سلميا لا يستدعي كل هذا الصخب والتهديدات العسكرية مع نظام الفقيه ومع اردوغان الذين هما فعلا يعملان على تقسم العراق.

ان روح وانفاس طالباني، مام جلال، يجب ان ترفرف على جبال كردستان وعلى كل العراق ولتكن لنا من سيرته الحافلة دروسا في الحوار والوفاق والمحبة. إنه كان حبيب الكرد وحبيب العرب وحبيب الأقليات وستظل ذكراه العاطرة في ذاكرة الجميع ووجدانهم ومجدا لذكراه.

* ايلاف

 

«المشهدان» الكردي والعراقي بعد رحيل.. «مام جلال»

*محمد خروب 

مُؤسف رحيل «حلاّل الأزمات» و»إطفائي الحرائق»، كما كان يوصف الزعيم الكردي العراقي جلال طالباني، في توقيت هو الأسوأ الذي يعيشه العراق رغم الظروف السيئة بل الكارثية التي طبعت المشهد العراقي، منذ ثمانينيات القرن الماضي وحوّلته الى ساحة حرب واجتياح وتمرّد واقتتال، دفع العراق–الوطن والشعب–ثمن كل المغامرات والأوهام التي تحكّمت بسياسات طائشة وغير محسوبة ارتكبتها قياداته الداخلية (عربها وكردها) وأخرى كانت نتاج أطماع إقليمية وأخرى دولية وقفت على رأسها الإمبريالية الأمريكية, التي رأت في كسر شوكة دولة بحجم وموقع وتاريخ العراق, فرصة لإضعاف المنطقة العربية وتأهيل إسرائيل لدور أكبر من حجمها وتاريخها, وتالياً لرسم خرائط جديدة في المنطقة تتقدم فيه رابطة المذهَب والطائفة والعِرق على اي رابطة اخرى وخصوصا رابطة «العروبة» التي بات عليها (أمريكياً وبمعاونة بعض العرب حتى لا ننسى) ان تتراجع ويخفِت صوتها ويخبو بريقها, لصالح الهويات الفرعيّة التي تؤسس لـ»عروبة» من نوع إنبطاحيًّ.. جديد.

الرجل الإستثنائي الذي برز في المشهد الكردي/العراقي, استطاع ان يحجز لنفسه مقعداً في محيط كردي... إقطاعي وعائلي, تتحكّم في مساره ومصيره عائلة البرزاني، شقّ طريقه الى الزعامة أو لنقل الى الصفوف الأولى, في فترة قياسية لم تحظ بها شخصية أخرى, ما بالك انه ابن شيخ الطريقة القادرية البعيد عن السياسة، لكنه جلال طالباني وقد انتسب للحزب الديمقراطي الكردستاني قبل إتمام دراسته الثانوية, استطاع ان «يخترق» اللجنة المركزية لهذا الحزب الإقطاعي المغلقة أبوابه أمام أي زعامة غير «العائلة»، ليكون عضواً فيها قبل أن يتم الثامنة عشرة من عمره, بل وان يُشكّل المكتب السياسي لهذا الحزب الذي لم تُعرف عنه أي ديمقراطية او انفتاح او ثقافة سياسية ذات بعد ايديولوجي, قبل ان يُتِم (طالباني) العقد الثالث من عمره.. وليقود بعد أقل من عشر سنوات وتحديداً في العام 1975 انشقاقاً وتمرّداً (صاعقاً) للمُلاّ مصطفى البرزاني زعيم الحزب الديمقراطي, الذي لم يكن يتصوّر ان احداً يمكنه ان يتمرد عليه وان يكسر «زعامته» وتفرّد حِزبه وخصوصاً عائلته واحتكارها التمثيل الكردي، فكيف بـ»شاب» (حتى لا نقول ولداً مقارنة بعمره) يخرج على زعامته ويتمرّد عليه ليُشكّل حزباً جديداً منافساً, يُطلِق عليه اسم «حزب الاتحاد الوطني الكردستاني».

هذا هو «العمّ» جلال المعروف «مام جلال»، والذي لم يتوقّف عن نضاله المُتعدّد الساحات والتحالفات والمنخرط بكليته في المشهد العربي وخصوصاً الفلسطيني منذ انشقاقه عن برزاني, وتحوّل بيروت الى «منفاه» الاختياري هي ودمشق التي نسج مع قيادتها تحالفاً تواصل وامتدّ حتى بعد وصوله كأول «كردي» إلى رئاسة العراق بعد عامين من الغزو الأمريكي البريطاني واستمرت رئاسته حتى العام 2014 ولكن من اسف بعد أن «ضربته» جلطة دماغية في العام 2012 وهو رئيساً، ما انعكس سلباً على صحته ونشاطه السياسي ودوره كإطفائي للحرائق وحلاّل أزمات وقدرته على ترجمة مقولته المؤثِّرة بأن «العراق هو كباقة الورد.. المُتنوّعة»... على ارض الواقع, وبخاصة بعد ان سرق رئيس اقليم كردستان مسعود برزاني الأضواء فيما عصفت بحزبه (الاتحاد الوطني) الخلافات, تبلّورت على شكل انشقاق قاده أحد أبرز قيادات الحزب نشيروان مصطفى، ليُشكّل حركة التغيير (كوران) التي غدت حزباً مستقلاً واخذت من رصيد حزب الاتحاد الوطني الكثير من الدعم والتأييد الشعبيين، رغم أن العلاقات بينهما عادت لتكون طبيعية وكادت في لحظة توافق وانسجام أن تُعيد اللُحمة بينهما، لكن شيئاً من هذا القبيل لم يحدث بعد ولا يبدو أنه سيحدث, بعد أن «اقتحم» المشهد قيادي آخر ومن قماشة مشابِهة للتي كان عليها الراحل نشيروان مصطفى, ونقصد هنا الشخصية البارزة في حزب طالباني «برهم صالح» الذي من «سوء حظه» تزامن انشقاقه عن الاتحاد الوطني وتشكيله حزبا جديداً اطلق عليه اسم «الديمقراطية والبناء»، مع نبأ رحيل مام جلال، ما شكّل مفارقة غريبة ومحزِنة, بدل ان يكون «فرصة» لبرهم صالح للإضاءة على برنامجه وتبريراً لانّشقاقه أو تفهّماً له.

رحيل مام جلال وهو الذي افقده المرض حيويته وأقعده عن القيام بدوره وخصوصاً مع احتدام الجدل حول الاستفتاء (قبل إجرائه), يعيد الى المشهد الكردي والعراقي الازمة المفتوحة التي خلّفها الاستفتاء وبروز قيادات قوية داخل الوسط الكردي تُهاجِم الاستفتاء وترى فيه مغامرة غير محسوبة, أضرّت القضية الكردية وانعكست آثارها السلبية وربما المُدمِرة, بعد ان بدأ الجمهور الكردي يفيق على خطورة تداعيات استفتاء 25 أيلول الماضي, ظناً منه أن الطريق الى الاستقلال (أو هكذا صوّرها أنصار برزاني) باتت مفتوحة, وان «الحلم» الكردي بات قريباً من التجسّد.

عقيلة مام جلال السيدة هيرو إبراهيم، أصدرت بياناً (لا علاقة له برحيل الرئيس, الذي رفض التصديق على عقوبة «الإعدام» لتعارِضها مع قناعاته الشخصية والضميرية) دعت فيه مسعود برزاني الى التراجع عن «خطأ» الاستفتاء, واصِفة المجلس الذي شكّله بديلاً لمجلس الاستفتاء, بأنه «مجلس قيادة ثورة», وفي ذلك إشارة الى ما قد تتطور الامور اليه «كردياً», بعد المخاطِر الماثِلة التي جلبها الاستفتاء.

هل يكون رحيل مام جلال فرصة لاستعادة «الحوار» بين الافرقاء العراقيين..عرباً وكردا, وخصوصاً بعد ان «اقترح» حيدر العِبادي, بأن تكون هناك إدارة مشتركة لكركوك, إثر شواهِد على حشد عسكري كردي, في المدينة المُتنازَع... عليها؟.

... الأيام ستُخبِرنا.

*صحيفة (الراي) الاردنية 

 

«مام جلال».. الرحيل الصعب في اللحظة الأصعب

*عريب الرنتاوي

برحيل جلال طالباني، يكون العراق، بعربه وكرده، قد فقد شخصية سياسية فذة، لعبت أدواراً أساسية في تاريخه المعاصر، وعلى امتداد ما يقرب من الخمسين عاماً... «مام جلال» لم يكن قائداً عراقياً لامعاً فحسب، بل كان زعيماً شرق أوسطياً بامتياز، عاصر جيل «الكبار» من القادة العرب، مقترباً ومبتعداً، خصماُ وحليفاً، وتتلمذت على يديه، أجيال من السياسيين العراقيين.

«أول رئيس كردي للعراق»، كان خلال العقود الأربعة الأخيرة، أحد ثلاثة اركان للحركات الوطنية الكردية في دول انتشارها الأربع، إلى جانب مسعود البارزاني وعبد الله أوجلان... قاد تياراً «عقلانياً» منتحباً على «العروبة»، ذا ميول «اشتراكية – ديمقراطية» حداثوية منفتحة على العالم، بخلاف منافسيه الآخرين، حيث الأول، اشتهر بميله اليساري، العنفي في غالب الأحيان، عاش في المنافي وقضى السنوات العشرين الأخيرة في محسبه الحصين فوق جزيرة إيمرالي في بحر مرمرة، فيما الثاني، نما على جذع العشائرية المحافظة، والحكم «السلالي» الأكثر شوفينية و»محلية» في الغالب الأعم.

عرف كيف يدير لعبة «الوحدة والصراع» داخل البيتين الكردي والعراقي، ارتبط بعلاقة تنافسية حادة غالباً مع مسعود البارزاني، امتداداً لصراع مع والده الملا مصطفى، لكن عرف متى وكيف يجمد صراعاته معه، مثلما أتقن فن توجيه الرسائل القاسية لغريمه في أربيل، لعل أكثره قسوة تلك التي صاحبت أحداث 1996.... كما أنه لم يجد صعوبة في قتال صدام حسين غالباً ووضع يده بيده فيي بعض الأحيان... وبرغم شلالات الدم التي باعدت ما بين كرد العراق والرئيس الراحل،إلا أن «مام جلال» تحاشى التصديق على حكم الإعدام الذي أصدرته محكمة عراقية ضد صدام حسين، تاركاً المهمة لرئيس حكومته نوري المالكي.

بخلاف البارزاني الذي اختار «اللجوء الإيراني» زمن الشاه، وصلاته المعروفة مع إسرائيل، عرف «مام جلال» كيف يدير علاقاته مع حزب العمال الكردستاني «بـ كه كه»، ربما لعب البعد الجغرافي عن الحدود مع تركيا دوراً في تحديد خياراته، وربما كان لإقامة الرجلين المتزامنة في دمشق أثراً في تحسير الفجوات بينهما، في حين لم يتورع البارزاني عن التواطؤ مع تركيا ضد رفاق الخندق الواحد والدم الواحد، كما لم يتورع عن الاستقواء بصدام حسين، في مواجهة زحف طالباني على أربيل، بل ووصف «ديكتاتور العراق الأشهر» ذات مرة، بأنه مخلص الكرد ومنقذهم.

استطال به العمر، ليرى حزبه الذي رعاه على نحو «أبوي» منذ تأسيسه، وقد بات عرضة للتشقق والانقسام... ففي حين انبثقت من رحمه حركة «كوران»، التي زاحمته على التمثيل في معقله الرئيس، تقول الأنباء، أن متوالية الانقسام لن تقف عند هذا الحد، بل ستشهد المزيد من الانشقاقات المقبلة على وقع الانتخابات... تلكم أخبار سارة بلا شك، لمسعود البارزاني الذي يجهد في ترميم وتجديد زعامته للإقليم بعد أن أصابتها «الطعون» بشرعيتها، والاتهامات بفسادها وميلها لإعادة انتاج ثالث التمديد والتجديد والتوريث، غير المقدس. في توقيت رحيل رجل الحوار ومد الجسور، تكتمل خسارة الإقليم والعراق على حد سواء... لو ان طالباني كان في كامل وعيه ونشاطه، لما أمكن للبارزني التفرد بقرار الاستفتاء... واليوم برحيله في هذا التوقيت الصعب، فقد الإقليم رجلاً ذا مكانة وازنة لدى جميع العراقيين، وفقد العراقيون، شريكاً كان بمقدوره تجنيب الطرفين، أصعب الخيارات وأكثرها سوءاً كتلك التي تطل برأسها هذه الأيام من المناطق المتنازعة.

بخلاف البارزاني، ارتبط «مام جلال» بعلاقات وطيدة مع الحركة الوطنية الفلسطينية ومع اليسار العربي عموماً، وحزبه ما زال مواظباً على إدامة هذه العلاقات، برغم تبدل الظروف واختلاف الأولويات وعمق التحولات... فيما العلاقة مع إسرائيل ارتبطت منذ ستينيات القرن الفائت بقيادة البارزاني، الأب والأبن... وبهذا المعنى، يمكن القول أن خسارة طالباني، هي خسارة للفلسطينيين كذلك.

الأردن يحتفظ بعلاقات جيدة مع مختلف تيارات الحركة الوطنية الكردية، والرئيس جلال طالباني لطالما حلّ ضيفاً على الملك الراحل والملك عبد الله الثاني، وسبق أن تلقى العلاج في الأجنحة الملكية في مدينة الحسين الطبية، لكن الأردن يخشى تداعيات انفصال الإقليم على مستقبل العراق والمنطقة برمتها، ولذلك فقد تعامل بحذر مع قضية الاستفتاء، فلم يدخل طرفاً في السجال ضده، ولم يسجل تأييداً له، معلناً كان أم مضمرا.

*صحيفة (الدستور) الاردنية 

 

وترجل الفارس عن صهوته.. مام جلال

*محمد أرسلان

حالة من الحزن تعيشها كردستان بوفاة الزعيم والقائد والرئيس جلال طالباني بعد صراع طويل مع المرض. مرحلة عصيبة تمر على المنطقة من مشاحنات وتوترات قوموية ودينوية قد توصل المنطقة لحالة من النزاع بين الإخوة الفرقاء وتقطع ما كان يصلهم مع بعضهم البعض من التاريخ المشترك والثقافة والمصير المشترك. 

ربما لو أن المام جلال يعيش الآن لنزع فتيل الفتنة والصراع الأخوي هذا قبل فوات الأوان، لأن هذا الزعيم يشهد له التاريخ بأنه رجل الحلول في أوقات الصعاب والأزمات التي مرت بها، فكان داهية ويعرف كيف يتغلب على الأزمات بفضل الحنكة التي كان يتمتع بها.

في أصعب أوقات النزاع والصراع التي كان يعيشها العراق عرف المام جلال كيف يعمل المستحيل لتجنيب العراق والعراقيين نار الفتنة المذهبية والطائفية، والكل يشهد له على ذلك العدو قبل الصديق إن كان داخل العراق أو خارجه، فهو أول رئيس غير عربي لدولة العراق بعد صدام حسين. 

الصراع السني – الشيعي والعربي – الكردي أثناء الفوضى الأولى التي عمَّت العراق كان المام جلال بيضة القبان التي عرفت كيف تعمل التوازن بين الشعب العراقي وتجنيبه الصراع لسنوات عديدة. 

وكذلك يشهد له الوضع الداخلي الكردي المليء بالتناحرات الحزبية التي تبحث عن مصالحها الضيقة في عالم بات لا يعرف معنى الحدود السياسية ولا المصالح العائلية والعشائرية ولا الحزبية، فكان المام جلال بوصلة الأمان في المعادلة الكردية كما كان في العراق.

حالة الشحن الموجودة الآن بين الكرد والعرب يلزمها شخصية مثل المام جلال تبحث عن الحلول بدلًا من التقربات العاطفية القوموية الشوفينية التي تنكر كل شيء في لحظة من الزمن حينما لا تتوافق وعقليتها التي تعيش في القرون الوسطى.

الكل كان يبحث عن طريقة وأسلوب والتشرف بلقاء المام جلال أثناء نضاله في جبال كردستان أو كفاحه من أجل تحقيق حلم شعبه في الحرية والكرامة، وكذلك الأخوة العربية – الكردية التي لطالما نحن بحاجة إليها في رهاننا أكثر من أي وقت مضى، لكن الفارس ترجل عن صهوته ولم يبقّ له سوى الذكرى الخالدة.

ارقد بسلام أيها الرئيس ولا تفكر بما تركته من إرث ثقيل خلفك، فالمسيرة مستمرة وهناك الكثير ممن سيحمل من أعبائك وحلمك ليوصلها لبر الأمان الذي لطالما كنت تحلم فيه وهو العيش في بلد يكون فيه الإنسان هو إنسان. سيبكيك الكرد وكذلك العراقيون الذين عرفوا عنك الكثير وتعلموا منك أنَّه لا يمكن أن يعيش الإخوة التوائم بعيدًا عن بعض، وأنَّ ما زرعته من محبة سيجنيه الأحفاد وإن كان بعد حين.

ارقد بسلام ومحبة أيها الزعيم ولا تأكل همَّ أن ما زرعته سيذهب سدىً لأن التاريخ هو الذي سيكون الحكم وليس من جعلوا من أنفهم حالة طارئة على صفحات التاريخ لا يمكن لها أن تغير مجرى التاريخ والمستقبل الذي يسير بإرادته هو وليس كما تشتهيه الظواهر الصوتية. ارقد بسلام أيها الانسان المام جلال وكلي حسرة أقولها لك إنه كيف كان معظم القادة والرؤساء الدوليين والإقليميين وعلى رأسهم إخوتنا العرب ضد الاستفتاء، هم كذلك في موتك أيضًا، لم يأتِ أحد ليودعك وليلقي عليك السلام الأخير، لكنهم أرسلوا لك تعازيهم الافتراضية عبر الأثير من خلال شاشات التلفزة لا غير. لكن أعلم أيها الزعيم أننا سنحمل رايتك ونتابع المسيرة بكل محبة وبروح النكتة التي لم تفارقك أبدًا ونقول للآخر إننا ما زلنا نحبكم بالرغم مما أنتم فيه وما تحملونه علينا في داخلكم.

نم وارقد بسلام لأننا على يقين أنَّ الشعوب التي ودعتك ستحلم بك دائمًا لأنك خالد في وجدانهم، وتترحم على من بقي في عالم يسوده الأحياء الأموات.

*صدى البلد المصرية

 

غابت الحكمة..!

*سالم مشكور

في إحدى زياراته الى واشنطن عندما كان رئيساً للجمهورية، وخلال استقبال الرئيس الراحل جلال طالباني جمعاً من أفراد الجالية العراقية، صرخ أحد الحاضرين من الكرد: مام جلال لماذا لا نستقل عن العراق؟ ما علاقاتنا بالعراق أصلاً؟. ابتسم الرئيس واستأذن الحاضرين بالرد عليه بالكردية فقال له: “علينا أن نكون واقعيين ونسأل أنفسنا إذا ما أعلنّا استقلال الاقليم غداً فهل أن الامر سيمرّ بسلام؟

هل ستسكت تركيا وإيران وسوريا؟ هل ستظل علاقاتنا طيبة مع عراق ننفصل عنه؟ هل القوى الدولية ستدعمنا؟ 

أنا أجيبك: كل هذا لن يحصل وسنتعرض لحصار يدفعنا في النهاية الى التراجع والعودة ضعفاء الى العراق”. بالأمس رحل عنّا صاحب ذلك العقل الراجح وتلك الكياسة والاريحية، وهو غاب عنّ الساحة والتأثير فيها منذ دخل في غيبوبته قبل سنوات. لو بقي بصحته لما آلت الامور في الاقليم الى ما وصلت اليه اليوم، ولما ظل التفرد والنزق يسوقان الشعب الكردي الى متاهة بعد أخرى، وأزمة تلو أزمة، مرّة بين أحزابه السياسية، وأخرى مع بغداد، مع إصرار على إبقاء التوتر معها مستمراً رغم تبدّل الحكومة الاتحادية ورئيسها، توتر يبدو مطلوباً لترسيخ التفرد والدكتاتورية، ليلتقي مع رعونة جديدة لأطراف خليجية تحرق الأخضر واليابس في كردستان العراق، عبر دعم استفتاء لا يجلب سوى مزيد من المعاناة للشعب الكردي. 

مطالبة الكرد بالاستقلال وفرحهم بالاستفتاء، لا ينبع كلّه من “حلم تاريخي” كما يصور كثير من المتحدثين الكرد، انما له أسباب أخرى على رأسها سعي السيد بارزاني الى إبقاء حالة القلق والتوتر والخوف لدى الشارع الكردي منذ العام 2003 وحتى اليوم، عبر افتعال أزمات مع المركز توفر له مبررات تخطي الدستور الفدرالي والإقليمي على حد سواء، وممارسة سلطة منتهية الصلاحية. 

في العام 2013، كان التوتر بين الحزب الحاكم في أربيل والحكومة الاتحادية بلغ أشده، وقد صعّد اعلام تلك السلطة من خطابه التحريضي للشارع ضد بغداد، حتى بات الناس البسطاء يرددون عبارة “المالكي أسوأ من صدام معنا”.  عندها تحدث رئيس الوزراء السابق الى الشارع الكردي في مقابلة مترجمة بثّتها محطة كردية مستقلة، ردّ فيها على كل الشبهات والمغالطات التي يبثها اعلام الحزب الحاكم. 

الحدث شكّل خطراً على جهود التحريض ضد بغداد وتوفير أرضية الرفض لبقاء الاقليم في العراق، فواجهه رئيس الاقليم (الشرعي آنذاك)، بسخط كبير كشفه بيان صدر عن مكتبه آنذاك.

ذهاب المالكي ومجيء العبادي بطريقته المختلفة في التعامل مع الازمات، لم يغيّر شيئا من جهود التحريض بما في ذلك التأكيد على أن بغداد قطعت رواتب موظفي الاقليم دون أن يرد أحد من بغداد بان الرواتب هي مسؤولية حكومة الاقليم وليست الحكومة الاتحادية ودون أنْ يسأل أحد عن مصير 900 ألف برميل يصدّرها الاقليم يومياً وتذهب عائداتها الى جيوب افراد محددين.

استمر التحريض وتصاعد بعد اقالة البرلمان العراقي لوزير المالية وخال برزاني، وبات لسان حال الأخير ان “الشراكة لم تعد ممكنة”. 

لم يتغير شيء من معوقات الاستقلال الكردي التي ذكرها الزعيم الكردي الراحل والرئيس السابق جلال طالباني، ومع ذلك اندفع الحزب الحاكم في أربيل الى اجراء الاستفتاء والحديث عن حتمية الاستقلال، مما استنفر مواقف داخلية وإقليمية ودولية رافضة للاستفتاء وأية مفاعيل تنتج عنه، كل ذلك تلبية لرغبة شخص يريد شرعية قومية تغّطي لاشرعيته الدستورية، بدعم من جهات وشخصيات أمريكية وغربية وعربية.

*صحيفة (الصباح) البغدادية 

 

وداعاً مام جلال

*حسين علي الحمداني

  رحل مام جلال أول رئيس منتخب في تاريخ العراق، رحل وترك تاريخا نضاليا كبيرا ومشرفا يفخر به كل مناضل قارع النظم الدكتاتورية والاستبدادية في كل بقعة من بقاع الأرض.

عندما تسنم الرئيس طالباني منصب رئيس الجمهورية كنت في حديث مع صديقي الكردي حينها وقال لي لقد انتصرت القضية الكردية عبر مام جلال، قلت له بل انتصرنا جميعا عندما أصبح مام جلال رمزا عراقيا وحاميا للدستور العراقي الذي منح كل العراقيين حقوقهم، ونحن نفخر بنضال الشعب الكردي ضد الدكتاتورية، هذا النضال الذي أنجب للعراق الجديد قادة من طراز الرئيس طالباني، قادة ربما لو توفروا للعراق منذ عقود طويلة لما آلت أمورنا بالشكل الذي عشناه في العقود المنصرمة، قادة قُدر لهم أن يقودوا البلد في زمن صعب، فشخصية مام جلال لم تولد لحظة تسلمه رئاسة الجمهورية، بل شخصية نمت وترعرعت على قضية عراقية قبل أن تكون كردية، فاضطهاد الكرد من قبل النظام البعثي يمثل حلقة من حلقات اضطهاد الشعب العراقي بأكمله، وجرائم البعث الصدامي في شمال العراق هي امتداد لجرائمه في الوسط والجنوب.

لهذا قلت لصديقي إن القضية الكردية انتصرت ليس بتسلم مام جلال رئاسة الجمهورية في العراق، بقدر كون الانتصار الحقيقي يكمن بأن الشعب يختار من يريده بحرية تامة، ولكن عندما يكون رئيس الجمهورية شخصية مناضلة كردية القومية عراقية الجذور فإننا هنا ننتصر أكثر من مرة كشعب وقوى سياسية، انتصارنا الأول يكمن في ترسيخ الديمقراطية، والانتصار الثاني في تجاوزنا الفكر الذي ساد عقودا طويلة في دولة ظلت قائمة على حزب واحد وشخص واحد وشعارات فارغة كتبت على جدران هاوية هشة.والانتصار الثالث ان العالم عرف جيدا اننا شعب متآخ.

لهذا كان مام جلال أحد صمامات الأمان في عراق ما بعد 2003 يحاور الجميع ويفكر كثيرا ويحسبها بدقة، وشهدت فترة رئاسته لدورتين أزمات عراقية كثيرة كان خلالها هو الملاذ الآمن للكثير من القوى السياسية التي تمكن من أن يجد مقاربات كثيرة في ما بينها ونجح في نزع فتيل أكثر من ازمة سياسية في ظروف صعبة جدا اختلطت فيها الأوراق بدرجة كبيرة جدا.

لهذا فإنه كان قريبا من الجميع يفكر بعقلية السياسي الناجح الذي مر بكل الظروف ولا يتردد في قول الحقيقة حتى وإن كانت مؤلمة، إنه لم يكن قائدا كرديا فقط بل كان قائدا عراقيا نجح في مهمته لدورتين متتاليتين.

اليوم يغيب عن مشهدنا السياسي رجل السياسة الكبير،يغيب ونحن في قمة الحاجة له كعراقيين وككرد نحتاج الى الحكمة والروية والرؤية الثاقبة البعيدة المدى التي اعتدناها في قرارات مام جلال سواء في قيادته للاتحاد الوطني الكردستاني أو في رئاسته للعراق وكيف تصرف بحكمة في أزمات سياسية كانت تعصف بالعراق في أوج مراحل التصدي للإرهاب، تصرف كرجل سياسة وجعل مصلحة العراق فوق المصالح الفئوية والحزبية الضيقة.

*صحيفة (الصباح) البغدادية

 

رحيل زعيم وفقدان صديق

*حمادة فراعنة

رحل جلال طالباني أول رئيس كردي للعراق، وأهم كردي يُحب العرب، وأقرب كردي للنضال الفلسطيني، والصديق العزيز الذي نكن له المحبة والتقدير لما يتمتع به من مواصفات الود والذكاء والثقافة والفكاهة والرغبة الشديدة في الحياة بحرية له ولشعبه. 

رحل الرجل المحنك الذي كان يجيد اختيار الفرص والهروب من الأزمات، والبحث عن القواسم المشتركة مع خصومه مهما بدا الوضع السائد معقداً، ولهذا كان رافعة لقضية شعبه، مخلصاً لها متفهماً بعمق عوامل الاحاطة بها، فقد أدرك فشل تجربة قيام دولة كردية في ايران، ولهذا السبب لم يكن متحمساً لدولة كردية في العراق، رغم انحيازه لها، ورغبته بها، ونضاله من أجلها، ولكن ديكتاتورية الجغرافيا المحيطة بالعداء للقومية الكردية تجعل حرية الكرد واستقلالهم عن العرب والأتراك والفرس صعباً، فاقامة دولة كردية على أي جزء من أرض الكرد فيها دمار وتقزيم واضعاف لأربع دول متصادمة مع بعضها وسرعان ما تتفق وتتحالف ضدهم لمنعهم من ولادة دولة كردية مستقلة لهم على أي جزء من أرض الكرد المقسمة بين أربع دول، بين العراق وسوريا وتركيا وايران. 

لم يكن متحمساً لفكرة الاستفتاء في ظل المعطيات القائمة، وكان يسأل “ لماذا نحكم جزءاً من العراق ونحن نملك مجالاً لأن نكون شركاء في حكم كل العراق، خاصة ونحن غير قادرين على حكم جزء مستقل من أرض كردستان الكبيرة “.

جلال طالباني كان قومياً كردياً بامتياز، ولكنه لم يكن معادياً للعرب، بل كان مؤمناً بالشراكة القومية الكردية العربية، وكان أقرب أصدقائه ومحبيه الراحل الحكيم “جورج حبش “ مؤسس حركة القوميين العرب، فكان يقول لو لم أكن كردياً لكنت عربياً مؤسساً مع جورج حبش في حركة القوميين العرب، ولم يتردد في المطالبة بالافراج عنه حينما أعتقل من سوريا، ووقف الى جانب زوجته هيلدا حبش عام 1968، وفي أول زيارة لي الى بغداد بعد أن تولى رئاسة الجمهورية سألني عن زوجة الحكيم السيدة الفاضلة هيلدا حبش وبناتها وعن أوضاعهم وظروف حياتهم وعبر عن استعداده لتغطية احتياجاتهم، بقوله “ للحكيم دين في أعناقي “ ولكن كرامة وكبرياء السيدة هيلدا كانت أكبر من كرمه ومبادرته، ورفضت بكل احترام وتقدير لشخصه أن تقبل أي مساعدة مالية تتلقاها منه، والحقيقة المبدئية والسياسية والوطنية والقومية لهذه المرأة زوجة الحكيم التي يجب أن تقال رغم تقديرها لجلال طالباني، قالت لي “ لا تنس أنه قبل أن يكون رئيساً للعراق بعد احتلاله من الأمريكيين وفي ظلهم “. 

وكان الشخص الثاني الذي رغب بمعرفة ظروفه تيسير قبعة نائب رئيس المجلس الوطني الفلسطيني، وأحد قيادات حركة القوميين العرب سابقاً ومنظمة التحرير لاحقاً، وحادثه من تلفوني مطمئناً عليه وداعياً له لزيارة العراق وكردستان. 

حينما سلمته رسالة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، المتضمنة رجاء العمل على معالجة أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في العراق الذين تعرضوا للبطش والمذابح والتصفيات بعد الاحتلال عام 2003، ومحاولة العمل على اخراجهم من “ حي البلديات “ المحاصر، الى خارج العراق، قال لي أمام الفلسطينيين خياران الأول أن يرحلوا الى كردستان ضيوفاً علينا، أو الى البلدان التي يرغبون الوصول اليها وهكذا سهل لي مهمتي ووفر لي غطاء الدخول الى الحي المحاصر، بهدف حصر أعدادهم وكيفية اخراجهم واستقراء خياراتهم في الانتقال الى كردستان أو بلدان أمريكا اللاتينية وهكذا حصل بخطوات تدريجية أزالت عنهم خطر التصفيات بفعل قرار وتضامن وانحياز الراحل جلال طالباني. 

كان صاحب نكتة، ويقولها عن نفسه، وفي زياراتي الثلاث الى بغداد وكنت أنزل ضيفاً عليه، كان يومياً على الغداء يخترع لي نكتة على شخص رئيس الجمهورية، ويردد على مسمعي ما يقال عن جلال طالباني، ويبرر ذلك بقوله “ حتى يتعلم العراقيون الديمقراطية عبر النكت فلا ينظرون بقدسية الى الرئيس أو الزعيم أو القائد، وكذلك حتى أقطع الطريق على خصومي السياسيين، فلا يجدون ما يقولونه عني؛ لأنني أقول النكتة القاسية عن نفسي قبل أن يقولوها عني “. 

كان أول كردي يتمرد على الزعيم الراحل مصطفى البرزاني الذي كان بمثابة الأب للكرد، فاختلف معه في حياته بسبب زعامته التقليدية غير الديمقراطية غير العصرية، لأن قبيلتيهما ومنطقتيهما متنافستين، أما خلافة الثاني مع البرزاني فيعود الى العلاقة مع الاسرائيليين فقد كان جلال طالباني معادياً للمشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي رافضاً أي علاقة مع العدو الاسرائيلي، ومتضامناً مع قضية الشعب الفلسطيني وعدالتها، ومنحازاً لحركتها الوطنية، وبقي وفياً لتراثه وقناعاته مع الفلسطينيين، الى الحد أنه يجد العذر للفلسطينيين في علاقاتهم الوطيدة مع الرئيس الراحل صدام حسين، رغم خلافاته العميقة معه، ومع ذلك رفض التوقيع على قرار اعدامه، وقد أرخ ذلك في سجله التاريخي أنه أبى أن يُسجل عليه موافقته وتوقيعه على اعدام الرئيس الشهيد الراحل. 

رحل جلال طالباني في ذروة مأزق الكرد ووقوفهم أمام منطق حاد : 

اما أن يسيروا نحو انجاز حق تقرير المصير وصولاً الى الاستقلال، أو يخسروا كثيراُ مما حققوه من مكاسب وطنية قومية وثقافية ولغوية في اطار حكم ذاتي أوسع من كامل في اقليم كردستان. 

 

موقف وشجاعة أردنية بامتياز

لم تكن مجاملة فقط، ولم تكن صدفة غير مدروسة، ولم تقتصر على الدوافع الانسانية نحو أسرة فقدت كبيرها، بل مشاركة معروف البخيت نائب رئيس مجلس الأعيان، رئيس الوزراء السابق، ممثلاً لجلالة الملك، في تشييع جثمان الراحل جلال طالباني، موقف سياسي بامتياز يتوسل ابقاء العلاقة والحفاظ عليها بل وتطويرها مع مكونات أهل العراق، مع الكرد كما هي مع العرب، ومع السنة كما يجب أن تكون مع الشيعة، ومع المسيحيين بالرقي نفسه مع المسلمين، تلك هي المعادلة الأردنية الواعية والمنتقاة في التعامل مع العراقيين، بمختلف مكوناتهم، لعل الأردن بعلاقاته مع الكرد ومع العرب، يؤدي دوراً سياسياً، وطنياً وقومياً، مع الأشقاء الذين يستحقون التفاعل معهم ومساعدتهم على تجاوز معاناتهم وانقساماتهم.

 

النجاح والفشل على أرض الواقع

وسواء نجحت خطوة الاستفتاء الأولى في كردستان العراق يوم 25 أيلول 2017، وشكلت مقدمة ضرورية نحو خطوتي حق تقرير المصير وصولاً نحو الاستقلال الناجز، أو شكلت خطوة تراجع وانكسار لتطلعات كرد العراق نحو أحلامهم الوردية، وباتوا أسرى استعجالهم بعد أن تعجلوا الخطوة الشجاعة فوقعوا في شر خياراتهم غير المدروسة بشكل كاف، وباتوا محصورين بلا صديق مقرب، وبلا رافعة محاذية، وبلا جبهة قومية أو أممية تسانده، باستثناء عدو العرب والمسلمين والمسيحيين المشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي الذي يعمل جاهداً وعلناً على تمزيق خارطتي العالم العربي، والعالم الاسلامي المحيط به ليبقى هو، وهو وحده القوي الفاعل المتحكم بسياسات العالم العربي ومصالحه وبالبلدان الاسلامية المحيطة وخاصة تركيا وايران وصولاً الى الباكستان وبلدان وسط أسيا. 

سواء نجحت خطوة كردستان العراق أو تم احباطها فقد طرحت التحدي أمام طرفي الصراع : 

الأول : أمام الكرد في كيفية التعايش وانتزاع الشراكة الكاملة والحضور الذي يستحقونه. 

والثاني : القوميات الثلاث: العربية والكردية والفارسية المختلفة والمتعاضدة في الوقت نفسه ضد خصمهم الكردي. 

التحدي يفرض على طرفي الصراع والخلاف والتصادم البحث عن وسائل تحقيق المصالح، يفرض على الكرد العمل الحثيث من أجل كسب وعي العرب والترك والفرس واختراق صفوفهم لطرح قضيتهم العادلة في مواجهة التعصب والحقد وغياب العدالة والمساواة وقيم المواطنة لدى البلدان الأربعة التي يعيشون فيها: العراق وسوريا وتركيا وايران. 

والتحدي يفرض على القوميات الثلاثة التعامل مع الكرد باعتبارهم قومية منفصلة بامتياز لها حق التعبير عن نفسها بهوية ولغة مستقلتين، واحترام متبادل وشراكة حقيقية جدية تقوم على المواطنة وحُسن المعشر والمساواة وتكافؤ الفرص اذا كانت حقاً حريصة على جغرافية دولها، وأمن مواطنيها، واستقرار أنظمتها، فالمبادرة التي قامت بها حكومة اقليم كردستان العراق تعكس رغبة الكرد في التحرر من الوحدة غير المتكافئة في الوطن الواحد، مثلما تعكس تطلعاتهم القومية كشعب مستقل عن القوميات الثلاث المتحكمة المتسلطة على حياتهم في العراق وسوريا وتركيا وايران. 

 

اسرائيل مشروع استعماري

رئيس ايران بتشبيه كردستان مثل “اسرائيل“ وهذا عدم المعرفة بوقائع الحياة والسياسة مثلما يعكس استعمال كل الوسائل غير المشروعة بما فيها الكذب والتضليل لم يكن موفقاً بالكرد حتى لا تصل اليه ولنظامه بواعث المبادرة الكردية من العراق، فالمشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي ساق ورحّل بشراً أجانب لا صلة لهم بفلسطين وأسكنهم فيها بالتواطؤ مع الاستعمار البريطاني الذي كان مستعمراً ومتحكماً بفلسطين، وقد قبلوا الرحيل وجاءوا الى فلسطين اما هرباً من الاضطهاد الأوروبي، أو انسجاماً مع مشاريع الاستعمار الأوروبي لبلدان العالم الثالث في أسيا وافريقيا وأمريكا الجنوبية، أو استجابة سياسية عقائدية لفكر الصهيونية، واحتلوا فلسطين واستعمروها، وليس هذا وحسب بل وطردوا نصف شعبها وشردوه خارج وطنه، بينما شعب كردستان يقيم على أرضه منذ الاف السنين، وأرضه تقسمت بفعل اتفاقات استعمارية بريطانية فرنسية بين البلدان الأربعة العراق وسوريا وتركيا وايران، وما حصل لهم حصل أيضاً للبلدان العربية، فقد قسموا سوريا الطبيعية بلاد الشام الى بلدان صغيرة الحجم محدودة الأمكانيات ليسهل استعمارها وأن تبقى أسيرة امكاناتها المتواضعة : الأردن وسوريا ولبنان وفلسطين، وعزلوها عن العراق، وأعطوا جزءا منها لتركيا وجزءاً أخر في ايران حيث يوجد حوالي ثلاثة ملايين عربي في تركيا وما يوازيهم في ايران، ومقابل ذلك قسموا أرض الكرد وأعطوا جزءا منها لسوريا وجزءاً منها للعراق. 

 

مقارنة خاطئة

فالمقارنة غير صائبة وليست حقيقية وليست منصفة بين المشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي وبين المشروع القومي الكردي، فهي ظُلم للكرد مثلما هي ظُلم للشعب الفلسطيني، بينما المقارنة الكردية الاسرائيلية مكسب للمشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي حيث تُوحي وكأن الاسرائيليين اليهود مارسوا حقهم في تقرير المصير على أرض فلسطين وأعلنوا وحصلوا على حقهم بالاستقلال كما تدعي الحركة الصهيونية وقادة المشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي، إنه الظلم بعينه والجهل الفاقع لمن يقول هذا التشبيه بين كردستان واسرائيل. 

يجب على الكرد توضيح عدالة قضيتهم للعرب وللأتراك وللفرس، حتى ولو رفضت أنظمتهم وهي لا شك سترفض أي منطق كردي، ولكن على الشعب الكردي أن يواصل عمله ونضاله لكسب الشرائح التقدمية والديمقراطية لدى القوميات الثلاث، حيث لا خيار لهم سوى هذا العمل وهذا الفعل القائم على الاحترام المتبادل. 

* كاتب سياسي مختص بالشؤون الفلسطينية والاسرائيلية.

*صحيفة (الدستور) الاردنية

 

وداعا فخامة مام جلال طالباني 

*زيرك كمال

في أوائل عام 1993 كتب السيد مام جلال طالباني مقالا بعنوان (إتحاد اليساريين) ونشره في جريدة (كوردستانى نوى). صرح في مقاله قائلا: "ان اليساريين لو يريدون ان يكون لهم دورا أكثر نشاطا وتفعيلا فعليهم ان يدخلوا جميعا الى حزب (الاتحاد الوطني الكردستاني)" وبعد ذلك فتحت جريدة (كردستانى نوى) ملفا حول هذا الموضوع، ودعت كُتاب الكرد وجميع المختصين في هذا المجال الى المشاركة في الملف وان يعبروا عن آرائهم بحرية كاملة. وقد كتبت مقالة على هذا المحور، وأرسلت لـجريدة(كورستان نوى) والتي كانت مقرها حين ذاك مقابل بلدية اريبل.

لا اريد ان اخفي عليكم، لم أفكر في نشرها، لسببين، أولا: انتقدت ما كتبه مام جلال صراحة. ثانيا: استخدمت بعض الجمل لم تكن لائقة في هذا الزمن والسياق. مع انني انتقدته علنا، لكنني كنت أحلم في جميع مراحل شبابي ان التقط صورة معه. آن ذاك كنت تفاحا غير ناضج، و كرزا حامضا. وهو(مام جلال) رمز سياسي وسياح كادح من جبل الى جبل، و من بلد الى بلد.

بعد يومين من ارسال مقالتي، رايت كاك فرياد هيرانى في السوق، قال لي: " مبروك عليك نُشرت مقالتك في صحيفة كورستان نوى" ذهبت مباشرة الى مكتبة لبيع الصحف، واشتريت جريدة (كورستان نوى). فعلا رأیتُ مقالتي في صفحة اربعة بلا تقطيع اي كلمة ولا تصريف اي جملة. فرحت كثيرا، أصابتني رجفة سرت من رأسي حتى أخمص قدمي. وكأنني رجل عطشان عثرت على قربة ماء في قلعة دمدم المحاصرة، طار قلبي ورقص في السماء. الستُ محقا؟ انني في عمر 26سنة أنتقد رجلا سياسيا ورمزا عظيما فوق عمر 60سنة. انا الذي في بداية الكتابة بتجربة بسيطة جدا في وسط روضة الصحافة وعالم هيبة النقد، فقد انتقدت شخصا عاش في السجن والغربة والهجرة بقدرعمري.

ان لم أكن مخطئا في عام 1999، في وقت لم ينقطع شم حرب إقتتال الإخوة في شوارع كردستان ولم تنقطع اصوات قتالهم في أذننا صداها. ذهبتُ مع وفد من الأدباء والمثقفين من اربيل الى السليمانية للمشاركة في مهرجان ادبي. في يوم التالي قام مام جلال بمأدبة عشاء لنا، سأل عن أسمائنا واحدا تلو الآخر، حين قلت انا (زيرك كمال) امسك بيدي، وأجلسني بالقرب منه، وقال لي انني سمعت انك ابن آغا و وشيوعي معا، هل هذا صحيح؟ قلت نعم. وقال وان كنتُ لم أكن مع بعض ماكتبته على مقالتي، لأنك كتبت بمعاير السوفييت، ولكنه رغم ذلك مقالة جميلة وقرأتها بدقة.

كلام (مام) وهبني القوة والقدرة في عالم تفكيري وكتابتي. وقد تفهمت أن (مام جلال) الذي صوَرته لي سياسة عدم تقبل الآخرين مختلف تاما مع مام جلال الذي كتب مقدمة لرواية (نباح) محمد موكرى، وهو الآن يقول لشباب مثلي: " تسلم يداك، أحسنت في مقالك". وداعا يا فخامة مام جلال، انت الآن يفارقنا في هذا الموسم مثل فراشة الخريف، أقول لك صراحة: أحبك كثيرا، لن انساك ابدا.

*موقع الحزب الشيوعي العراقي

 

طالباني... الكردي الذي هزم اليأس بالبراغماتية

*حميد الكفائي 

لم يكن رحيل الرئيس جلال طالباني قبل أيام مفاجئاً للساحة السياسية العراقية، فقد غاب الرجل عملياً منذ أواخر 2012، إثر جلطة دماغية أعاقته عن تأدية مهامه لعامين تقريباً. وعلى رغم أن الدستور ينص على اختيار بديل خلال 30 يوماً في حال عجز الرئيس عن أداء مهامه، فإن أحداً لم يجرؤ على المطالبة بتفعيل هذه المادة لما تمتع به طالباني من احترام بين العراقيين، عرباً وكرداً.

تميز طالباني بحنكة سياسية نادرة ونظرة ثاقبة مكّنتاه من البقاء قوياً في الساحة السياسية العراقية والدولية، على رغم الصعوبات الكبيرة التي اعترضته وكان يمكن أن تعترضه. فقد قاد حركة مسلحة تسعى لتقسيم دولة عضو في الأمم المتحدة والجامعة العربية، وهذا وحده كاف لاستعداء العالم، لكنه احتفظ بعلاقات ودية مع العديد من الدول، بما فيها العربية.

كما حظي باحترام الأوساط الثقافية والإعلامية لاهتمامه بالثقافة والأدب وحرصه على توظيفهما لمصلحة السياسة. كنت قد دعوته لزيارة مقر «بي بي سي» عام 2002 أثناء عملي فيها، فلبى الدعوة بلا تردد، وعندما أخبرت الإدارة بأن طالباني سيزورنا في بوش هاوس، فرح مديرو الأقسام ومقدمو البرامج واستقبلوه استقبالاً حافلاً وظل طوال اليوم يتنقل بين الاستوديوات لإجراء المقابلات.

انخرط طالباني ضمن نسيج الأحزاب اليسارية العالمية حتى أصبح نائباً لرئيس منظمة الاشتراكية الدولية. ولم تمنعه يساريته وعلمانيته من إقامة علاقة وطيدة مع إيران الإسلامية أو الولايات المتحدة الرأسمالية، كما لم تمنعه طموحاته القومية الكردية، المناهضة للحكم العربي، من التفاعل مع العرب ثقافياً وسياسياً. كانت لديه قدرة مذهلة على صياغة خطاب مقنع، وأتذكر كيف تمكن من امتصاص غضب أعضاء مجلس الحكم أثناء استجواب وزير الخارجية، هوشيار زيباري، عام 2004 الذي كان صرح أثناء اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة أن «الشيعة العراقيين موالون لإيران»! ألقى طالباني خطاباً بليغاً حافلاً بالمعلومات حول المواقف الوطنية للشيعة، مندداً بكل من يشكك بوطنيتهم حتى أحرج زيباري وجعل الشيعة يتعاطفون مع موقفه، فانبرى عادل عبد المهدي مدافعاً عنه قائلاً: «لكل جواد كبوة».

رافقتُ طالباني في عدد من زياراته الخارجية ورأيت حنكته وقدرته على كسب المواقف لقضيته. لم يعرف اليأس في حياته، فهناك دائماً حل لأي مشكلة يكمن زاوية مظلمة والمطلوب إضاءة تلك الزاوية كي يبرز! في أواخر 2003، ترأس وفداً لزيارة تركيا، واستقبله في أنقرة وزير التجارة ووزير الخارجية بالوكالة. كان الوزير التركي فظاً في تعامله مع الوفد العراقي، وربما كانت تلك سياسة رسمية، إذ رفض رئيس الوزراء، أردوغان، استقبال أعضاء الوفد جميعاً، بل قصر استقباله على طالباني وبعض الأعضاء، ما سبب امتعاضاً لدى الآخرين. استخدم الوزير التركي عبارات غير ديبلوماسية، وخاطب سكرتير الحزب الشيوعي العراقي، حميد مجيد موسى، متهكماً: «كيف قبل الشيوعيون أن يتعاملوا مع الأمريكيين؟»، فرد عليه موسى: «هذا أمر طبيعي فعندما يغير الآخرون مواقفهم نغير نحن مواقفنا».

كرر الوزير التركي تعبير «الفوضى في العراق» أثناء المؤتمر الصحافي المشترك، لكن طالباني تجاهل الرد عليه، فحسبتُ أنه ربما لم يسمعْه جيداً فكتبت له موضحاً ما قاله الوزير وضرورة الرد عليه. لم يرد طالباني حتى بعد تنبيهي إياه، بل أخذ يشرح بتفصيل ما يحصل في العراق مشيراً إلى الإنجازات التي تحققت ومنوهاً بأن المشاكل التي يعاني منها العراق إنما تحصل في دول أخرى لم تعانِ ما عاناه من ديكتاتورية وحروب وعقوبات دولية، لذلك «لا تمكن تسمية الوضع في العراق فوضى»، مذكراً بأهمية العراق الإقليمية والدولية وضرورة أن تتفاعل الدول جميعاً مع التغيير السياسي إيجابياً كي تضمن تحقيق مصالحها. بعدذاك غيّر الوزير التركي موقفه وربما شعر بأنه تجاوز كثيراً على العراقيين باستخدامه تعبير «الفوضى».

وأثناء زيارتنا إيران، بدا طالباني منسجماً كلياً مع المسؤولين الإيرانيين، وكان يتحدث معهم طوال الزيارة بالفارسية التي يجيدها إجادة تامة، ما ساهم في تهميش أعضاء الوفد الذين لا يجيدون الفارسية. وقد حظي باحترام واهتمام بالغين واستقبله المرشد علي خامنئي والرئيس محمد خاتمي ورئيس الحرس الثوري رحيم صفوي بالإضافة إلى وزيري الخارجية والداخلية.

أهم صفة يمكن إطلاقها على طالباني هي البراغماتية وسهولة تغيير موقفه عندما يرى ضرورة لذلك. ففي أيار (مايو) 1983، أجهز حزبه على سبعين شيوعياً عراقياً معارضاً كانوا يقيمون ضمن مناطق نفوذه في حادث عُرف بـ «مجزرة بشتاشان»، وما زالت تفاصيله غامضة بسبب تجنب الطرفين الحديث عنه، لكنّ كثيرين يدّعون أن طالباني تواطأ مع صدام في قتله حلفاءه الشيوعيين.

وفي شباط (فبراير) 1991، نظمت المعارضة العراقية مؤتمراً في بيروت حضرته كل الأطراف وكان طالباني عنصراً فاعلاً فيه. اتفق الجميع على العمل معاً خلال المرحلة المقبلة لإطاحة النظام وتأسيس حكم جديد. وبعد اختتام أعمال المؤتمر بأيام قلائل، فاجأ طالباني العالم بظهوره في بغداد معانقاً صدام!

تخلى عن حلم إقامة الدولة الكردية «لأنه غير ممكن، والأفضل هو الحصول على الحقوق والعيش ضمن العراق». كما تحالَف مع نوري المالكي ومكّنه من البقاء في رئاسة الحكومة بعد انتخابات 2010 على رغم أن كتلته لم تكن الأكبر، وأعاق سعي 175 نائباً لسحب الثقة من حكومته في أواسط 2012 وكان ذلك آخر موقف سياسي يتخذه قبل إصابته بالجلطة الدماغية.

إن لم يكن رحيل طالباني مفاجئاً، فغيابه النهائي يشكل منعطفاً كبيراً في السياسة العراقية والكردية، وسوف يقود إلى إعادة تشكيلها. لقد ضعف حزبه كثيراً أثناء مرضه بسبب الصراعات الداخلية التي دفعت نائبه، برهم صالح، لأن يؤسس حزباً جديداً، بينما بقي الآخرون في تجمع غير متجانس تقوده فعلياً زوجته هيرو، ونجله قُباد. وفي ظل الأزمة الحالية التي أثارها خصمه مسعود برزاني بإجرائه استفتاء حول الاستقلال، معرّضاً الإقليم لأخطار داخلية وخارجية كثيرة، لم يبقَ حزب كردي قوي، ولديه مواقف واضحة، سوى حركة التغيير التي عانت هي الأخرى بسبب رحيل مؤسسها، نوشروان مصطفى. لقد رحل طالباني، رجل الصفقات والمفاجآت، لكن غيابه سيخلق مفاجآت أخرى قد تكون أخطر وأبقى.

*صحيفة (الحياة)

 

مام جلال وأيام المسارات العنيدة

* إسماعيل زاير 

خسرنا في اليومين الماضيين زعيمين كبيرين نذرا نفسيهما للعراق الجديد هما الرئيس مام جلال والدكتور مهدي الحافظ. في هذا البلد العريق يندر أن تشاء الأقدار أن نجمع قائدين من معدنهما وقلما تعارضت آراؤهما وأحلامهما على امتداد العقود الماضية وكانا جزءا لامعا من جسد العراق المضيء وسفيرين للتقدم والديمقراطية والتسامح.

“الصباح الجديد” كانت على الدوام في اتصال مع أفكار “مهدي الحافظ” وقبل أن يغيب مام جلال عن المشهد السياسي كتبنا عن شخصيته في نشراتنا السابقة ونستعيد اليوم مع الحدث المرير هذه الكلمات وفاءً للرئيس الراحل.

عندما قابلته أول مرة في صيف عام 1978 كان يبحث في شخصي عن علامات معرفة مشتركة في الفكر أو في الناس وكنت التحقت اليه للتو.. قال : من أنت..؟ قلت له وانا أعرف أن شقيقي الراحل ابراهيم عمل معه مصمماً في صحيفته النور أثناء صدورها في بغداد : انا شقيق ابراهيم زاير.. ضحك بمرح وصخب طفوليين وقال: إنه رفيقي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين يرحمه الله إنه شهيد كبير.. ومَنْ هم أصدقاؤك ؟، قالها بسرعة مباغتة.. وتذكرت اثنين منهم، الأقرب الى نفسي انزلق على لساني دون تفكير فذكرته : حسين عارف.. قلت. فرد بسرعة صاروخية : يا للجحيم.. انه تروتسكي.!. قلت متفاجئاً بخيبته وخيبتي الأولى معه : ولكني أنا أيضا تروتسكي.. مضى في استنطاقه لي وكـأنه لم يسمعني : ومن غيره؟ أطلقت آخر رصاصاتي المقنعة : عباس البدري.. فتجهم وتذمر وتأفف ونطق أخيراً : خلي يولي.. كسلان.. !

انتهت بهذا أول جلسات الاشتباك مع القائد جلال الطالباني وكان ذلك في أواخر تموز عام 1978.. التحقت بفريق مقاتلي عصبة الماركسية اللينينية في منطقة قره داغ. بمحض الصدفة وبضربة حظ بعدما تخلى عني الشخص الذي تعهد بإيصالي الى الجبل والى البيشمركة بعد صدور اخر أوامر القبض علي من المخابرات العراقية وبما إنني تعبت من ضيافتهم السقيمة فقد انتهت مقدرة امتلائي.. لقد تخلى عني ذلك الشخص.. ولكن حظي قادني الى مناضل شجاع كردي لم أكن أعرفه بل راقب وجودي وخيبتي وأشفق علي من القبض والإعدام.. ( سأتحدث عنه في مكان آخر )، أوصلني الى الجبل وامتزجت مع المقاتلين بسرعة صاروخية كما يمتزج السكر في قدح الشاي الساخن. أعطوني اسم شاهين وبدلة بيشمركة من دون سلاح. بعد أسابيع وجولات عديدة في دشت قره داغ وعمر اغا وسوسناوة وتكية. طلب القائد مام جلال منهم أن يسفروني اليه في زيوه ونوزنك قرب جبل قنديل الشهير. وهكذا فعلت بعد 12 يوماً من السير عبر ألغام وحقول مظلمة ومبيت على فراش من الحجارة والتراب.

عدّ جميع أصدقائي في مقر القيادة في نوزنك أن لقائي الأول بالمام جلال كان ناجحاً، ولا سيما وانني عشت ضيفاً عليه في خيمته ثلاثة أسابيع.. كان المام يبدأ فجره بمحطة بي بي سي وهو ما يزال في الفراش فتقع الحان وصفارات الراديو العجائبية على أذني كالعسل.. وأسمع شتائمه لذوي الذوق التافه أو « الذوق سزية» كل يوم.. الناجي الوحيد من تلك الشتيمة الوحيدة التي سمعتها من لسانه كان ذلك الذي يضع فيروز في مذياعه..

كنت أدرك أنه في خضم ذلك الزمن المحتدم ليس لدى مام جلال شيء مبهج او خبر طيب لذا فلحن طيب صباحاً أمر مرحب به. فالنظام الدكتاتوري كان يحلق في سماء الجبروت القاهر لخصومه بقوة أجنحة الولايات المتحدة من جهة والاتحاد السوفياتي من جهة أخرى، وفي المحيط والجوار كانت قيادتا جيش المقبورين : صدام والشاهنشاه، تنسق ليل نهار على مرآنا ومسمعنا أحياناً، لخنق البيشمركة وحرمانهم من نسغ الحياة..

كان هذا السياسي والمثقف قريباً الى جهامة كاهن مسيحي ساقته الأقدار الى برية ضائعة.. وبفضل مسبحة طويلة تتدلى من يديه نجح المام بالكاد في تمضية أكثر الأوقات مللاً ومبعثاً للضجر.. في عزلته الحميمة تلك يغذي مخيلة أكثر المتشائمين بالأمل والحلم.. كان ماكينة للحيوية والعاطفة والصرامة واليقظة. 

بوسعه أن يتحول من خطيب تقطع كلماته الخصوم كما السكين الى راوية للأحاديث المرحة والذكريات النادرة.. وكان بوسعه ان يحول قتامة وشؤم احد الأيام الى مرح واحتفال باختلاق مآدب غذاء مستعجلة. ومع ذلك كان بوسعه أن يستقبل الرسل المتوجهين اليه من أصقاع وأقاصي كردستان ويستمع إليهم ويوزع عليهم أوامر ونصائح عسكرية وتنظيمية وشخصية.

في تلك البقعة السديمية المظهر كان وجوده أكثر من رمز على ماذا يمكن ان تنتهي اليه مغامرة العقل البشري.. وتوقه للكرامة والكبرياء.. كان يقول: اسم وطنه كردستان وهو يدق قدمه بالأرض.. فتهتز التربة تحتنا عند كل اضطراب فيه..

كان يجتمع مع أركانه وهو واقف ويناقشهم وهم يمشون إلى جنبه.. ومع كل واحد منهم كان له خطاب خاص ولغة خاصة. تتناسب هذه المقدرة النادرة للقائد مع المطالب التقنية لدور كل منهم ومع المزاج الشخصي والتأريخي لكل واحد منهم.. كان في أحاديثه مع قيادات الاتحاد الوطني مثل نهر هادر يصحح مجرى الماء ويفتح دروباً بديلة.

اليوم وبعد مرور حوالي ربع قرن على تلك الأيام يمسك المام بيدي كل مرة يراني فيها ويميزني عن رفقتي في اللقاء ويهتف بالسامعين بمزاياي الى درجة انه يخجلني فيها ويحرجني.. ويجدد الحاحه علي أن لا أبقى بعيدا عنه وأن أطلب منه ما أشاء.. ولكني ربما لا يعلم أن ما أراه وأسمعه منه من تقدير ووفاء هي أكثر ما أشاء وأرغب وأكثر ما يرغب المناضل في تلك الأيام…

*رئيس التحرير صحيفة "الصباح الجديد"– البغدادية

 

كنت وحيداً ياسيدي

*حسين الجاف

تفرد الرئيس الراحل مام جلال ( واسمه الكامل جلال حسام الدين محمد نور الله نوري الطالباني )المولود في قرية كلكان التابعة حالياً لقضاء دوكان عام 1933 ) بمجموعة من الخصال التي ما تمتع بها احدٌ سواه فقد كان يجمع مابين الذكاء المفرط والحكمة والحصافة واللطف والظرافة والعمق والبساطة والتبصر ونفاذ البصيرة ونقاوة السريرة بين قوة بأس المناضل الثوري المؤمن بالكفاح لتغيير خارطة الحياة نحو الافضل ورقة الاديب الحساس الانسان المتحضر الودود. إلتقيت به مرات عديدة.. في حضن الجبل الاشم بيشمركة بطلاً من اجل الحقوق القومية الكردية المشروعة التي عانت من الهدر والاهمال والنكران عقوداً طويلة عديدة.. والتقيته منفرداً وهو رئيس لجمهورية العراق الفيدرالي في 16 كانون الثاني عام 2010 عندما كنت مديراً عاماً للدراسة الكردية والقوميات الاخرى بديوان وزارة التربية الاتحادية وقبلها وفي 26/4/2004.إلتقيته بصحبة الصحفي المعروف الاستاذ اسماعيل زاير والمرحوم الاديب الكردي الكبير الاستاذ محمد الملا عبد الكريم المدرس عندما كان مام جلال عضواً في مجلس الحكم.. حيث تداول معنا بخصوص مشروع تشكيل الوكالة الوطنية المستقلة للانباء كمشروع اعلامي كبير.. ينهج منهج المهنية والاستقلالية شأنه شأن الوكالات العالمية للانباء كرويبترز والاسوسيتدبريس وغيرهما.. حيث تناولنا معه الطعام في قصر السلام.. ليعطر جلستنا التي استغرقت لنحو اربع ساعات.. بنكاته وقفشاته وذكريات ايام نضاله الذي استغرق من عمره الحافل بالتوثب والحركة لأكثر من ستين سنة.. ولأسباب خارجة عن الارادة لم يتحقق المشروع الاعلامي المذكور. والتقيته مرات اخرى مع القيادة الادبية العراقية التي تعود ان يستقبلها مع الكثيرين منهم واحياناً وعندما كنت اراه في المناسبات الوطنية كان يسالني عن الناقد فاضل ثامر والشاعر الفريد سمعان والناقد ياسين النصير وعن د. خيال الجواهري وغيرهم. كان رحمه الله يشكل دائرة معارف واسعة لوحده فعدا إتقانه لمجموعة من اللغات الاقليمية كالعربية والفارسية والتركية والاذرية اضافة للغته الام ( اللغة الكردية) التي احبها وابدع فيها وكتب بها مئات المنشورات الحزبية والمقالات السياسية بابداع مشهود وكما وتعلم اللغتين الانكليزية والفرنسية ايضاً.

 

رؤساء دول

كان صديقاً للكثير من رؤساء العالم وقادته.. الرؤساء جورج دبليو بوش ( امريكا) وتوني بلير(بريطانيا) وباراك اوباما ( امريكا) و(ميتران) و(بومبيدوا) فرنسا وفيدل كاسترو ( كوبا) و( نيلسون مانديلا) جنوب افريقيا ومن الرؤساء العرب جمال عبد الناصر وحافظ الاسد واحمد بن بيلا وحسني مبارك وانور السادات وعبد الرحمن عارف والملك حسين علاوة على زعماء الاشتراكية الدولية مثل فيلي براندت (الالماني) و ( اولاف بالما) السويدي.. وكان قد التحق في اوائل سبعينيات القرن الماضي بفصائل الثورة الفلسطينية في بيروت وعمل معهم مقاتلاً من اجل عودة فلسطين من النهر الى البحر وعمل اهلها ومن خلال ذلك تعرف على ياسر عرفات رئيس دولة فلسطين الاسبق والرئيس محمود عباس ( الرئيس الحالي) وجوج حبش ونايف حواتمة وغيرهم كما كان صديقاً لابرز الشعراء والادباء العرب وفي طليعتهم شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري الذي كان تربطه بالرئيس الراحل علاقة صداقة متينة استغرقت اكثر من ثلاثة عقود.. بل ان مام جلال هو الذي كان قد اهدى الشاعر الكبير الطاقية ( العرقجين) الكردي الذي كان الجواهري يضعها على رأسه في المناسبات المختلفة.. لقد كان مام جلال يحفظ معظم اشعار الجواهري بل كان راويته.. وعلاوة على الجواهري فقد كان صديقاً لمعظم المفكرين والادباء العرب امثال ادونيس وكريم مروة ومحمود درويش وسميح القاسم ومحمد حسنين هيكل وصابر فلحوط وعلي عقلة عرسان والعشرات غيرهم كما كانت تربطه علاقات قوية مع آية الله الخميني والخامنئي والامام السيد علي السيستاني.

كان مام جلال ماركسياً ثورياً على الرغم من كونه سليل اسرة كردية عريقة تزعمت وتتزعم الطريقة القادرية في مدينة كركوك ( التي احبها وظل يتردد عليها بين الحين والآخر بأعتبارها مرابع صباه ) لاكثر من (700) سنة ولا تزال التكية الطالبانية في كركوك والتي تضم اجداث اجداده معلماً دينياً توحيدياً بارزاً في مدينة النار الازلية.. يتحلق حول معظم ابناء كركوك ومن كل المكونات. ما سمعت فخامته يطرق موضوعاً في اي باب في السياسة والاجتماع والاقتصاد والادب والتصوف الا وكان فيه فارس حلبته. كان نصير للمراة.. حيث عيّن ثلاث نساء كقاضيات في السليمانية في منتصف التسعينيات من القرن الماضي وكان يحب العمران والحضارة..

 فقد اشرف بنفسه على بناء جامعة (كويه) ومتنزه الحرية بالسليمانية المعروف بـ (باركي ئازادي).. وفي مؤتمرات كلاوينر الادبية كان حريصاً جداً في اللقاء بالمثقفين العراقيين والاجانب.. كان على يقين بأن اللقاء بالمثقفين ورجال الكلمة الطيبة المبدعة من اهم متطلبات نجاح الزعيم السياسي والقائد الوطني في اداء رسالته الوطنية والسياسية، بإعتبارهم نبض الامة وضمير الشارع الحي. وفي لقاء صحفي ذكرت لي النائبة السابقة زكية اسماعيل حقي رئيسة اتحاد نساء كردستان في السبعينيات بأن مام جلال كان ذهب سراً الى وارشو / عاصمة بولندا عام 1957 لغرض المشاركة في مؤتمر الشباب العالمي المنعقد فيها في اثناء وجوده هناك.. علم بأن اتحاد النساء العالمي يعقد مؤتمراً عالمياً في بيكين عاصمة الصين لنساء العالم وهنا فكر بالذهاب الى هناك لتمثيل المرأة الكردية والعراقية فيه.. وبعد جهد جهيد وصل الى بكين وقدم طلباً الى رئاسة المؤتمر العالمي المعقود في قاعة كبرى هناك بحضور عشرة الاف امرأة من القارات السبع قائلاً :

 

اضطهاء طبقي

نظراً لأن المرأ ة العراقية الكردية والعربية.. تعاني من الاضطهاد ( الجندري) والسياسي والطبقي.. وحيث ان الحكومة الملكية يومئد لا تسمح لمثيلاتهن بالمؤتمر وطرح قضاياهن ومعاناتهن ومشاكلهن في هذا المنبر العالمي.. فما كان لرئاسة المؤتمر النسائي العالمي هذا الا الرضوخ للطلب والسماح له بدخوله ممثلاً للمرأة الكردية والعراقية.. وهكذا كان ( مام جلال) الرجل الوحيد بين عشرة آلاف إمرأة من كل القارات في هذا المنبر العالمي.. وبعد فراغه من القاء معاناة المرأة العراقية وشؤونها وشجونها بنجاح بالغ قوبل جهده هذا بالتصفيق الحار وبالتثمين البالغ.. هكذا كان مام جلال.. انساناً بسيطاً.. لكنه كان عزيز النفس شامخاً.. بل شجرة جوز سامقة خضراء.. تؤتي ثمارها الطيبة في كل حين.. فخلال السنوات الاربعة عشرة الماضية بعد تجربة التغيير الاتي حصلت يوم 9/4/2003 اثبت الرجل التاريخي بأنه صمام امان العراق في اطار دور الفرد الايجابي في عملية التغيير التاريخي.. رحم الله (مام جلال) ومام باللغة الكردية تعني (العم) وهي تسمية اطلقت عليه وهو لما يبلغ العاشرة من العمر.. على اسم عم له اسم ( جلال) توفي في ميعة صباه.. وذلك توسم في (جلال الطالبني) وهو صغير من ذكاء مفرط وامارات قيادة ناجحة مبكرة..

كما قلنا.. لقد غادرنا الزعيم التاريخي في اشد ساعات بلادنا حراجة وسوداوية نتيجة انعدام الكفاءة في دوائر الدولة وشيوع الفساد والمالي والاخلاقي في معظم دوائرها وسيطرة القبضايات التي تقرع طبول الحرب لأقل مسألة املاً في الحصول على المكارم والمغانم على اشلاء ومصائب الشعب العراقي المظلوم والمحروم. لقد كان جلال الطالباني تلميذاً لامعاً جداً في مدرسة المرحوم القائد التاريخي الكبير الخالد الملا مصطفى البارزاني العسكرية الثورية مثلما تلميذاً باذخ الاخلاص في مدرسة الزعيم السياسي الكردي المفكر ابراهيم احمد.. والد عقيلته السيدة (هيرو خان ) التي رزق بولدين منها هما (بافيل) المتزوج من كريمة الاستاذ ملا بختيار القيادي البارز في قيادة الاتحاد الوطني وسكرتير الهيئة العليا فيه.

وفي ختام هذه العجالة أجد أفضل من أعطرها بابيات جميلة قالها شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري بحقه:

شوقا(جلال) كشوق العين للوسن

كشوق ناء غريب الدار للوطن

شوقاً اليك وان ألوتْ بنا محنٌ

لم تدر أن كفاءُ الضُرِ والمحن

يا أبن الذُرى من عقاب غير مصعدة

شمُ النسور به إلا على وهن

وحسب شعري فخراً ان يحوز

على راو مثلك ندب من ملهم فطن

ماذا أُغني شوق جلال كشوق العين والوسن

شوقاً الين وانت النور من بصري

وانت محل الروح في البدن

رحم الله ابا فرات ورحم الله الرئيس الطالباني وعوض العراق وابناءه عنهما خيراً.

*‏ صحيفة "الزمان"11/10/2017 

 

PUKmedia/اعداد: الانصات المركزي

 

شاهد المزيد

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket