مام في الشام

الآراء 08:24 PM - 2023-08-26
 علي شمدين

علي شمدين

-٣٢-
(مام جلال: لا نملك سوى شقة واحدة، وهي في الشام)
بسبب ظروفه النضالية القاسية، ومهامه السياسية المتشابكة، وعلاقاته الديبلوماسية الواسعة، لم يستقر مام جلال في المكان نفسه طويلاً، وإنما كان يتنقل من مكان إلى آخر، وكان بحسب تعبير هيرو خان، يعيش: (حياة داخل حقيبة متنقلة)، ولكن ظلت الشام بالنسبة له المحطة الرئيسية للإنطلاق نحو العالم الخارجي، وخاصة نحو الوسط العربي وحشده لصالح قضيته القومية، وليس صدفة أن لا يكون لمام جلال أي بيت أو عقار سوى شقة واحدة كان يملكها في الشام (حي المزرعة)، وهذا ما يؤكده الكاتب والصحفي في جريدة الشرق الأوسط اللندنية (معد فياض)، في كتابه (من ذاكرة الرئيس مام جلال)، وينقل عن مام جلال قوله: (لو تراجع دوائر السجل العقاري سواء في السليمانية أو بغداد، أو أية مدينة عراقية لن تجد هناك عقاراً واحدًاً أو قطعة أرض مسجلة باسمي أو باسم زوجتي، نحن لا نملك سوى شقة واحدة في دمشق، كنا قد اشتريناها عام 1975..).
فمثلما كانت مدينة (كويسنجق)، وكما يقول (معد فياض)، في كتابه المذكور: (تشكل أهم العوامل المؤثرة في تاريخ ومستقبل طالباني.. وهي التي صقلت، بناسها وتكيتها ومدارسها ومكتباتها ومقاهيها، شخصية ذاك الشاب الذي سيكون له في المستقبل القريب شأن سياسي متميزً..)، كذلك هي مدينة (الشام)، التي ظل مام جلال يعود إليها كلما ضاق به المكان على مدى النصف الأخير من القرن المنصرم.
فقد شكلت هذه المدينة الأليفة علامة فارقة في مسيرته النضالية التي بدأها وهو لا يزال في ريعان شبابه، عندما زارها لأول مرة في عام (١٩٥٥)، لحضور مهرجان الشباب العالمي في وارسو، وهو لم يتجاوز بعد الثانية والعشرين من عمره، وكانت زيارته الثانية إلى الشام على ظهر شاحنة نقل الحبوب من دون أن يحمل معه أية وثائق سفر نظامية سوى هموم شعبه المقهور متجهاً إلى أكبر مهرجان شبابي عالمي في موسكو عام (١٩٥٧)، وفي الشام يحصل على حق اللجوء السياسي وعلى وثائق السفر اللازمة، ويتعرف فيها على شخصيات هامة ومؤثرة شكلت حلقة الوصل الرئيسية له مع الوسط العربي الحكومي والسياسي والثقافي والاجتماعي.. وكذلك يتعرف هناك على رموز الحركة السياسية والثقافية الكردية السورية والكردستانية، مثلما شكلت الشام بالنسبة له بوابة رئيسية للعبور نحو العالم الخارجي، واجتياز دوائر الرأي العام العالمي وتعريف تلك الدوائر بقضية شعبه العادلة والنجاح في استقطاب تأييدها حول هذه القضية.
فباتت مدينة (الشام)، الحاضنة التي تبلورت فيها شخصية مام جلال السياسية، والبوابة التي انفتح من خلالها على العالم الخارجي، وبنى فيها تلك الشبكة الواسعة من العلاقات المختلفة، وشهد فيها مناخاً مناسباً ساهم في صقل شخصيته الكاريزمية التي لا يمكن اختصار أبعادها في أي لقب سوى لقب (مام جلال)، الذي يقول عنه معد فياَض في كتابه المذكور، بأن هذا اللقب  بات يعني بالنسبة للكرد أعلى درجة من لقب (رئيس الجمهورية)، فينقل عن لسان محارب قديم من البشمركة كان قد سأله فياض: (لماذا لا تنادونه بالسيد الرئيس؟)، فيجيبه البيشمركة: (بإمكان أي عراقي أن يكون رئيسا للجمهورية، إذا توفرت لديه الظروف، واتفقت عليه الأحزاب فيما بينها، لكن ليس بإمكان أي عراقي، سواء كان عربياً أو كردياً، أن يكون مام جلال، نحن عرفناه في الجبل بهذه التسمية وسنبقى نعرفه هكذا، فإن تحدثتِ مع زوجتي في البيت عنه بوصفه رئيسا للجمهورية، فإن زوجتي التي تعيش معي في قرية على سفح جبل لن تعرف عمن أتكلم، لكنني عندما أقول لها مثلا كنا مع مام جلال، فسوف تعرف فورا من أعنيه بالضبط).
ولا شك بأن تلك المرحلة من وجود مام جلال في الشام تركت بصمتها العميقة على مشاعره الودية نحو هذه المدينة التي وجد فيها الأمن والاستقرار بين أهلها وناسها بمختلف انتماءاتهم السياسية والثقافية وشرائحهم الاجتماعية، وكانت الشام بالنسبة له بمثابة الحاضنة التي بلور فيها فكرة تأسيس الاتحاد الوطني الكردستاني عام (١٩٧٥)، الذي أعاد التفاؤل الى البيشمركة وقادتهم السياسيين الذين ألقوا أسلحتهم بيأس ومرارة نتيجة الانتكاسة التي حلت بهم إثر اتفاقية الجزائر المشؤومة التي وقعت بين العراق وإيران في (٦/٣/١٩٧٤)، وانطلقت منها التحضيرات اللوجستية للبدء بالثورة الجديد التي شكلت الشرارة الأولى التي اندلعت منها كل هذا اللهيب الذي أحرق جميع مؤسسات الظلم والقهر والاستبداد الصدامي ودمر كل أدواته ورموزه في كردستان.. 
وما أن يزور مام جلال مدينة الشام، حتى كان بيته هذا يزدهر بالحركة والحيوية، ويتحول طوال وجوده هناك إلى ما يشبه خلية النحل، ويزدحم بالوفود والضيوف والأصدقاء بمختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم السياسية، ويعج بالاجتماعات واللقاءات الهامة بين كافة الأطراف السياسية حتى المتناقضة منها، لقد رحل الرئيس مام جلال ولكن ظل هذا البيت الوحيد الذي كان يملكه يمثل من بعده عنواناً لمدى تعلقه بمدينة الشام، ورمزاً  لعمق علاقاته مع أهلها بمختلف فئاتهم
واتجاهاتهم، ولا بد أن يتحول هذا البيت ذات يوم إلى متحف تحفظ فيه ذكرياته وتراثه الغني الذي يتحدث عن مرحلة هامة من مراحل حياته التي أمضاها في الشام بين أهلها الذين أحبهم وأحبوه، فها هي الممثلة السورية القديرة (نجاح حفيظ)، والتي شاءت الصدفة أن تسكن في نفس البناية التي تقع فيها شقة مام جلال، لتقول في حوار أجراه معها الصحفي (إبراهيم حاج عبدي)، مايلي: (كل ما أتذكره هو أن مام جلال كان شخصاً ودوداً، لطيفاً، وفي منتهى التهذيب، وكان يمضي أيامه مسافراً، فلم نكن نلتقي به إلا في أوقات متباعدة، وكان يأتي كطيف عابر جميل، يقضي بيننا أياماً عدة ثم سرعان ما يحزم حقائب السفر نحو بلاد أخرى..)، وتتابع قولها: (لم نكن نشعر بأنه كان غريباً بين أصحابه وأصدقائه في سوريا، وهو بدوره كان حريصاً على هذه العلاقة الودية، ولم يكن يتخلف يوماً عن أداء واجب الجيرة، فكان يساهم مع الجيران في كل ما تتطلبه البناية من مصاريف ونفقات رغم أنه لم يكن مقيماً بصورة مستقرة ودائمة، وهو بذلك فرض احترامه على جميع سكان البناية، مثلما كان يحترمهم فرداً فرداً..).
ومن الجدير بالذكر إن هذا البيت تم إغلاق بابه بالشمع الأحمر من جانب الحكومة السورية لفترة من الزمن كردة فعل منها على مفاوضات مام جلال مع صدام حسين عام (١٩٨٤)، ومن ثم أعيد فتحه ثانية.

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket