مام في الشام

الآراء 10:09 PM - 2023-06-24
علي شمدين

علي شمدين

(٢٤)

(جاندار: فرحت عندما علمت بأنني سألتقي مام جلال)

منذ عودته إلى الشام عام (١٩٧٢)، ظل مام جلال يتنقل بينها وبين القاهرة وبيروت، إلى أن عاد منها إلى كردستان العراق عام (١٩٧٧)، لقيادة الثورة الجديدة التي أشعلها في جبالها عام (١٩٧٦)، وشكلت هذه العواصم الثلاث الميدان الرئيسي الذي تابع فيه مام جلال نضاله الديبلوماسي المرير من أجل التعريف بقضيته القومية، وتفعيل دوره السياسي بين الوسط العربي وإحياء شخصيته الكاريزمية التي كانت قد خف بريقها نوعاً ما خلال النصف الأخير من عقد الستينات نتيجة للانشقاق الذي شهده الحزب الديمقراطي الكردستاني، فبدأ مام جلال يستعيد دوره السياسي شيئاً فشيئاً، وينشط علاقاته مع الوسط العربي بشكل أقوى وأوسع، وفضلاً عن ذلك كانت تلك السنوات (١٩٧٢- ١٩٧٧)، التي أمضاها بين هذه العواصم التي كانت تشكل قلب العالم العربي، فرصة تاريخية أيضاً للتواصل مع القوى اليسارية في المنطقة ومع قادتها، ولعل لقاءه مع المناضل التركي التقدمي (جنكيز جاندار)، تعد فرصة تاريخية أوصلت مام جلال فيما بعد إلى رئيس الجمهورية التركية (تورغوت أوزال)، والعمل معه من أجل بلورة مشروع سلام بينه وبين زعيم حزب العمال الكردستاني (عبد الله أوجلان)، وإعلان أول هدنة تاريخية بين الطرفين في (١٦/٣/١٩٩٣).
كان جاندار شاباً يافعاً في مقتبل عمره عندما اجتاز الحدود سراً من تركيا إلى سوريا هرباً من حملات الملاحقة والسجن التي بدأت في تركيا على إثر الإنقلاب العسكري في (١٢/٣/١٩٧١)، وبات جاندار فيما بعد أحد قادة الرأي وكاتب الزوايا في الصحف والمجلات المرموقة مثل (نيويورك تايمز)، وعمل مستشاراً سياسياً لتورغوت أوزال، ومن بعده مستشاراً لرجب طيب أردوغان، وظل خلال مسيرته هذه نصيراً قوياً للشعوب المضطهدة وخاصة الشعب الكردي، وخصماً عنيداً للأنظمة الدكتاتورية وفي مقدمتها نظام صدام حسين، وكان لقاءه مع مام جلال فرصة هامة ساهمت في تغيير مسار حياته، حيث يقول جنكيز جاندار حول ذلك في كتابه (قطار الرافدين السريع)، ما يلي: (عرَّفني الكرد السوريون في بيروت إلى جلال طالباني القائد الكردي العراقي الذي أصبح في ما بعد أول رئيس جمهورية منتخب في العراق، وأنا عرَّفت القائد الكردي العراقي بعد سنوات طويلة إلى رئيس الجمهورية التركية تورغوت أوزال، فبدأت تركيا تتعلم أنها لن تستطيع تجاوز الحدود والانفتاح على الشرق الأوسط من دون كردها، ومن دون مواجهة التاريخ..). 
هكذا ينظر جنكيز جاندار إلى علاقته مع مام جلال، والتي كانت القضية الكردية بوصلتها الرئيسية، ويعبر عن رؤيته حول ضرورة حل هذه القضية ليس لأنها قضية هامة وعادلة فقط، وإنما كذلك لأنها البوابة الرئيسية التي لايمكن لتركيا الخروج من عزلتها الخانقة وبالتالي انفتاحها على الشرق الأوسط وتحقيق حلمها العثماني بدون حلها، ويحدد جاندار بدقة المفتاح الذهبي الذي حاول أن يفتح به هذه البوابة التي ظلت حتى ذاك الحين مغلقة في وجه هذه القضية بيد من حديد، وكان هذا المفتاح هو جلال طالباني الذي التقى به جاندار لأول مرّة في بيروت عن طريق صديقهما المشترك عبدالحميد درويش، وهذه الفرصة التاريخية هي بالذات التي تحدث عنها جاندار في كتابه (قطار الرافدين السريع)، وقال بأنها ساهمت في تغيير مسار حياته السياسية والإعلامية: (فإذا كان هناك من لعب دوراً في حياتي دون أن يدري ولم نلتق على مدى أربعين سنة فهو عبد الحميد درويش، أحد أقدم رجال الحركة الكردية..).
خلال وجود مام جلال في بيروت، كان كل من (عبد الحميد درويش، وجنكيز جاندار)، متواجدين هناك أيضاً، فيقترح درويش على جاندار اللقاء مع مام جلال، ويسأله إن كان يرغب في تناول الفطور معه، فيقول جاندار في كتابه المذكور حول ذلك: (سأعترف بأنني انفعلت فرحاً لدى سماعي هذا الاقتراح.. وتحمست للتعرف على شخصية معروفة عالمياً وتناول الفطور معها..)، فيقوده عبد الحميد درويش في أوائل شهر نيسان من العام (١٩٧٣)، إلى البيت الذي كان يسكنه مام جلال بالقرب من ساحة الحمراء، وبعد دخولهما وقعت عينا جاندار على رجل طويل القامة مهيب المظهر عريض الشاربين، وكان الرجل جالساً بصمت ووقار شديد، فظنه جاندار بأنه هو مام جلال، بينما كان هناك رجل يضايقه بين الحين والآخر بسؤاله عن الطريقة التي يفضلها لإعداد البيض، وكانت لدى جاندار رغبة شديدة بالتعرف على الرجل الجالس بجواره على الكرسي والذي ظل يظن بأنه هو مام جلال، ولكي يتخلص من إلحاح (الخادم) يجيبه جاندار عن طريقة البيض الذي يرغب في تناوله، وما أن عاد الذي ظنه جاندار خادماً إلى المطبخ لإعداد البيض له، حتى مد جاندار يده للرجل الأنيق الجالس إلى جواره، وخاطبه بالعربية، ولكنه لم يبال وكأن أحداً لم يكلمه، ولم يكلف نفسه حتى عناء مد يده ليصافح يد جاندار الممدودة له، وبعد الانتهاء من تجهيز البيض، ُدعا جاندار ذاك الرجل الجالس بجواره على الكرسي والذي افترضه بأنه هو مام جلال ليرافقه إلى المائدة، ولكنه لم يتحرك،
ولم يأت معه إلى المائدة، فيسأل جاندار نفسه: ألم يتم دعوتي لأن أتناول الفطور مع جلال طالباني؟ فلماذا لا يأتي معي إلى المائدة إذاً؟ وأخيراً، يعلم جاندار بأن الشخص الذي يقدم له الطعام إلى المائدة ويُصر على الحديث معه بالإنكليزية ويظن بأنه الخادم، هو نفسه الزعيم الكردي جلال طالباني.
فيسأل جاندار: إذاً من هو ذاك الجالس على الكرسي؟ فيجيبه مام جلال بأنه حارسه الشخصي، وهو لا يتكلم العربية ولا الإنكليزية ولايفهم سوى الكوردية، فغدت هذه الحادثة طرفة ظل مام جلال يرويها لضيوفه في الكثير من جلساته كنكتة من نكاته الجميلة والمعبرة عن روحه الإنسانية المرحة حتى وإن كان هو موضوعها، مثلما يقول عنه الكاتب خالد القشطيني في مقاله (عندما يسخر الكرد)، المنشور في جريدة (الشرق الأوسط): (إن فخامة الرئيس جلال طالباني كان يدون النكات، ويستمع إليها بشغف، وقيل بأنه يرويها للمقربين منه بمتعة كبيرة حتى وإن كان هو موضوعها أو الشخص المستهدف فيها..).


علي شمدين

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket