مام في الشام

الآراء 09:10 PM - 2023-05-13
مام في الشام

مام في الشام

-١٨-

(الكرد بين حجرتي رحى البعث في سوريا والعراق)
علي شمدين
منذ أن وطأت قدما مام جلال الشام أواسط الخمسينات، والتي شكلت المحطة الرئيسية في مسيرته النضالية، ظل يسعى بكل طاقته من أجل الانفتاح عبر هذه البوابة على العالم الخارجي وخاصة العربي منه، نظراً لإيمانه بضرورة إخراج قضيته القومية من دائرتها المحلية رغم أهميتها باعتبارها الحصن المنيع لاستمرار المقاومة والنضال، ولكنه مع ذلك ظل يحاول طرحها على الرأي العام الخارجي لاستقطابه حول عدالتها، وقد نجح في تأسيس شبكة من العلاقات المصيرية الواسعة التي تركت بصمتها العميقة على مستقبل هذه القضية، فكان لقاء مام جلال بالرئيس عبد الناصر لأول مرة في (٢٢/٢/١٩٦٣)، والذي تألق نجمه، وبات رمزاً قوميا يمثل طموحات الجماهير العربية في تحقيق الوحدة من دون منازع، بمثابة النقلة النوعية التي نقلت قضيته القومية إلى العالم العربي، فنجح في جذب انتباه عبد الناصر وثقته التي يمكن قراءتها بين سطور رسالته التي خطها بيده، إلى المشير كمال عامر حول هذا اللقاء بتاريخ (٢٣/٢/١٩٦٣)، في وقت وصف فيه أعضاء الوفد العراقي في نفس الرسالة، بأنهم: (شباب يحتاجون إلى رعاية وتوجيه، ورأيتهم في شدة التعب لدرجة أن السعدي نام في أول جلسة..)، وعلي صالح السعدي الذي نام في جلسته الأولى مع عبدالناصر هو نفسه رئيس الوفد العراقي، وأمين عام حزب البعث ونائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية آنذاك وليس سواه.
وقد تطورت هذه العلاقات إلى درجة أنه تم الطلب من الرئيس عبد الناصر للتوسط بين الحكومة العراقية وقيادة الحركة الكردية في كردستان العراق من أجل التوصل إلى حل سلمي للقضية الكردية هناك، ومما زاد من أهمية هذه الخطوة أكثر هو أن مام جلال كان اللاعب الأساسي الذي مثل شعبه وقضيته القومية في تلك الحوارات، بعد أن نجح في كسب ثقة رئيس حزبه وقيادته السياسية، وثقة ممثلي شعبه الذين اجتمعوا في مؤتمر كوية خلال فترة (١٨-٢٢/٣/١٩٦٣)، وبلغت الحوارات ذروتها عندما قدم مام جلال إلى عبد الناصر بتاريخ (١٧/٤/١٩٦٣)، مذكرة باسم الشعب الكردي خلال بدء حوارات الوحدة الثلاثية في القاهرة، والتي نالت موافقته وتأييده، ولكن المشكلة التي ظهرت أمام نجاح تلك الحوارات والتي دفعتها إلى طريق مسدود هي تمسك البعث في سوريا والعراق بزمام الأمور في مواجهة المد الناصري بعد استلامهما السلطة بإنقلابين متتالين في العراق (٨/٢/١٩٦٣)، و في سوريا(٨/٣/١٩٦٣)، فكانت القضية الكردية هي الحلقة الأضعف في هذا الصراع، حيث سارع البعث في البلدين إلى شن الحرب على كردستان، الأمر الذي خلط الأوراق جميعها.
ففي الوقت الذي نالت المذكرة التي قدمها مام جلال تأييد عبدالناصر، نرى أن طالب شبيب، وزير الخارجية العراقي البعثي آنذاك، يبدي في كتاب (مراجعات في ذاكرة طالب شبيب)، موقفاً مناقضاً لموقف عبد الناصر حول تلك المذكرة، ويشكك في مضمونها، إذ يقول: (إنها كانت ترمي بشكل غير مباشر إلى إظهار كيان كردي مصطنع سيضر بقضيتهم ويعرقلها دون أن يحقق أياً من طموحاتهم، وطبيعي أن لا يحقق ذلك للعرب أية مصلحة، ويمنع العراق من إمكانية التحرك السليم ولعب أي دور مفيد، وهذا ما شرحناه لعبد الناصر كلما تحدث معنا كوسيط أو كطرف..)، فهم لم يكتفوا بالتشكيك في المذكرة الكردية وإنما ظلوا يحاولون التشويش عليها كلما التقوا عبد الناصر، وهذا التنافر في المواقف بين عبد الناصر وحزب البعث في سوريا والعراق، تجاه القضية الكردية في العراق تحديداً، جعل الشعبين الكردي والعربي يدفعان ثمنه باهظاً.
هذا وقد تجلى التلاحم الشوفيني بين القيادتين القطريتين لحزب البعث اللتين باتتا تسيطران بالحديد والنار على زمام السلطة في سوريا والعراق، بشكل واضح وصريح في موقفهما الموحد ضد الشعب الكردي وقضيته القومية العادلة، وقد تتوج هذا الموقف بأبشع صوره وذلك بإرسال لواء عسكري من الجيش السوري مدجج بالسلاح والعتاد في أوائل تشرين الأول (١٩٦٣)، وهو لواء اليرموك بقيادة الضابط السوري فهد الشاعر، إلى داخل كردستان العراق بهدف المشاركة مع الجيش العراقي في قمع الثورة الكردية، ومحاولة إنهائها تلبية للنداء الذي وجهه عبد السلام عارف إلى الجنود السوريين باسم الأمة العربية خلال لقائه بهم في مواقعهم القتالية التي تمركزت في (دهوك، وزاخو)، وفقاً لما نقله ضابط الأمن السوري منذر الموصللي في كتابه (البعث والأكراد)، على لسان عبد السلام عارف الذي قال: (أخواني أحييكم باسم الأمة العربية.. وأعلمكم بأنني واثق بأنكم ستقضون على الخونة والمتمردين والانفصاليين، وستعودون إلى دياركم مكللين بالنصر..).
وفي المقابل، يقول السياسي الناصري الدكتور جمال آتاسي في المقدمة التي كتبها لكتاب منذر الموصلي، (عرب وأكراد)، معلقاً على مثل تلك الدعوات المحرضة على إبادة الشعب الكردي، والتي كانوا ولازالوا يطلقونها تحت دخان كثيف من الشعارات العقيمة الداعية إلى تحقيق الوحدة العربية: (لم تقم بين سورية والعراق أية وحدة ولا أي اتحاد، لا ولم يستطع النظامان البعثيان في البلدين حتى أن يرفعا الحواجز الجمركية فيما بينهما، ولكن جل ما استطاعا عمله كمظهر من مظاهر العمل المشترك والوحدة المزعومة، هو ذلك الجحفل العسكري الذي أرسلته الحكومة السورية بقيادة فهد الشاعر، والذي سمي بفوج اليرموك، ليقاتل إلى جانب الجيش العراقي ضد العصيان الكردي في شمال العراق..).
وفي هذا الإطار، وتلخيصاً لجوهر الخلاف في الموقف بين الجانبين، يقول جمال الآتاسي، في الكتاب المذكور (عرب وأكراد)، بأنه كان في زيارة إلى بغداد بعد انقلاب حزب البعث في العراق، وكان الأمين القطري لحزب البعث في العراق علي صالح السعدي نائباً لرئيس الحكومة حينذاك، وكان متجهاً إلى القاهرة لحضور احتفالات ذكرى الوحدة (٢٢/٢/١٩٦٣)، فيلتقي به الآتاسي ويسأله: (ماذا أنتم فاعلون تجاه الأكراد والمسألة الكردية في العراق؟)، فيجيبه البعثي صالح السعدي: (لا أكتمكم أننا قد اتصلنا قبيل الثورة، بزعماء الحركة الكردية لنضمن هدوءهم عند قيامنا بحركتنا، وليؤيدوا ثورتنا، ولقد قطعنا لهم عهداً بتحقيق مطمحهم في الحكم الذاتي، ونحن مصممون على تحقيق بعض من مطالبهم، فإن قبلوا كان بها وإلا فنحن قد رتبنا أمورنا بحيث نستطيع القضاء على تمردهم والانتهاء منهم في مدة أسبوعين أو ثلاثة أسابيع فقط..).
وهكذا يظهر التناقض بين موقف التيارين (الناصري، والبعثي)، من القضية الكردية، حيث يرد الآتاسي عليه بقوله: (إن كلمة إرضاء بعض المطالب لا تكفي ولا تضع حلاً لقضيتهم، أما تصور القدرة على الإجهاز على ثورتهم فذلك عين الخطأ، كما وأني أراه مستحيلاً لا في أسابيع بل ولا في أجيال، ومثل هذا التفكير لا يطمئن أبداً..)، ويتابع الآتاسي قوله بأن السعدي وعده قائلاً: (خيراً سيكون)، ومن ثم أقلع السعدي مسافراً إلى القاهرة، وقبل أن يعود منها إلى بغداد أعلنت الحرب من جديد ضد الشعب الكري، وتم اعتقال بقية أعضاء الوفد الكردي المقيمين في بغداد، فاضطر مام جلال إلى إلغاء رحلته إلى بغداد، والتوجه بدلاً من ذلك من القاهرة إلى فرنسا ليعود إلى كردستان عن طريق طهران، ليصبح الشعب الكردي بين حجرتي رحى جناحي حزب البعث في سوريا والعراق.

PUKMEDIA

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket