مام في الشام

الآراء 08:23 PM - 2023-04-29
16

16

مام في الشام
-١٦-

  (عبد الناصر: سأفكر بما قاله لي الطالباني)
علي شمدين
لقد تبينت من خلال الحلقات السابقة أهمية تردد مام جلال على الشام، خلال تلك الفترة الزمنية المفصلية التي غطت أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن المنصرم، والتي كانت تشكل بحق مرحلة تاريخية هامة شهدت خلالها المنطقة عموماً والعراق ومصر وسوريا بشكل خاص، تغييرات جذرية رسمت اللوحة السياسية للصراع في المنطقة والتي كانت القضية الفلسطينية تحتل مركزها الإستراتيجي، والتي أفرزت زعامات كاريزمية عربية استطاعت أن تستنهض الجماهير العربية (من المحيط إلى الخليج)، وتستقطبها حول قضية العرب الأولى (الصراع العربي الإسرائيلي)، وحشدت جماهيرها حول شعارات (الوحدة، والحرية، والإشتراكية..)، فولدت من رحم هذه الشعارات العاطفية (الجمهورية العربية المتحدة).
 وفي خضم تلك الظروف السياسية المعقدة، شكل وجود مام جلال في الشام فرصة تاريخية هامة له كلاجئ سياسي، حيث استطاع ورغم صغر سنه أن يذهل الجميع بمهاراته الديبلوماسية، وعمق تفكيره، وبعد نظره السياسي، والتزامه المبدئي بقضية شعبه، ونجح بجدارة في أن يلعب دوره المميز من أجل الدفع بهذه القضية العادلة إلى قلب تلك الأحداث التي كانت تعصف بالمنطقة، واستطاع أن يكسب ثقة رئيس حزبه الذي كان هو الآخر لاجئاً في الاتحاد السوفيتي آنذاك، وقرر أن يغامر بنفسه في خوض هذا التحدي الصعب، فنجح في الإختبار وظهر كشاب متألق وجريء، ومناضل ديناميكي نشيط، وقائد كاريزمي بارز، وتمكن من إختراق مختلف دوائر الصمت والتجاهل والتعتيم المرسومة حول قضية شعبه..
فكان له دوره الرئيسي في تشجيع المؤسسين الأوائل على تأسيس أول تنظيم سياسي كردي في سوريا، ومساعدتهم في إنجاز وثائقه واستكمال أعضاء قيادته، والعمل معهم من أجل حشد الشخصيات السياسية والثقافية والاجتماعية حول هذا الحزب الوليد، وإقناع المنظمات والجماعات الكردية للإنضمام إلى صفوفه، حتى بات من الممكن اعتباره أحد أبرز مؤسسيه الأوائل، وكان حضوره المهرجانين العالميين في وارسو عام (١٩٥٥)، وفي موسكوعام (١٩٥٧)، ونجاحه في المشاركة في فعالياتهما كوفد كردي مستقل، بمثابة نقلة نوعية في عرض القضية الكردية أمام الرأي العام العالمي، وقد شكل حضوره تلك الفعاليات الشبابية العالمية البوابة التي عبر من خلالها إلى العالم التقدمي آنذاك ممثلاً عن قضيته القومية.
هذا وقد نجح مام جلال كذلك في التواصل مع الوسط العربي الحكومي وغير الحكومي، وكسر حاجز العزلة المفروضة على قضية الشعب الكردي، وحاول بأسلوبه المرن ومنطقه القوي المساهمة الفعالة في تصحيح تلك الصورة النمطية المتصدئة في الذهن العربي والتي كانت تصف القضية الكردية بإسرائيل الثانية، وعمل بالتعاون مع فريق من رفاق دربه المتواجدين في الشام آنذاك (عبد الرحمن ذبيحي، كمال فؤاد، هزار موكرياني..)، والذين شكلوا معاً لجنة للعلاقات الخارجية تمثل الحزب الديمقراطي الكردستاني، على نسج خطاب سياسي موضوعي ومعتدل يركز على القواسم المشتركة بين هذين الوسطين في إطار الدعوة إلى (التآخي الكردي العربي)، وتمكن من اللقاء مع أبرز الشخصيات السياسية والحكومية في سوريا ومصر (أكرم الحوراني، ميشيل عفلق، عبد الحميد سراج وكمال الدين رفعت..)، وقد أثمرت تلك الجهود عن تأسيس قسم كردي في إذاعة القاهرة عام (١٩٥٨)، ومهدت الأرضية السياسية لاستقبال مصطفى البارزاني خلال عودته إلى العراق.
هذا وقد تبين هذا الدور بشكل أوضح خلال زياراته المتكررة فيما بعد إلى مصر والجزائر وليبيا، ولقائه (جمال عبد الناصر، وأحمد بن بله، والقذافي..)، فيترك لديهم إنطباعاً إيجابياً مؤثراً، وينسج معهم علاقات قوية ساهمت في تصحيح رؤيتهم حول المسألة الكردية، وقد تجلى ذلك خلال زيارته الثانية مع فؤاد عارف ضمن الوفد الحكومي العراقي إلى الجزائر ومرورهم بمصر عام (١٩٦٣)، حيث يستقبلهم عبد الناصر في الذهاب والإياب ويتحدث معهم عن الكرد والقضية الكردية، فيخبره مام جلال بموقف حزبه ويؤكد له بأنهم لا يريدون الانفصال عن العراق، وهم ليسوا ضد القومية العربية ولا ضد الجمهورية العربية المتحدة، وبأن كل ما يتمنوه منه أن يتدخل هو بنفسه بينهم وبين الحكومة العراقية للتوصل إلى إقرار الحكم الذاتي ضمن العراق. 
وهكذا، ينقل معد فياض في كتابه عن مام جلال الذي يقول بأن عبد الناصر تحدث إليهم وقال: (أنا استمعت إليكم وسأفكر بما قلتموه لي، وعندما تعودون من الجزائر سيكون لنا لقاء آخر.. )، وبعد عودة الوفد من الجزائر، يلتقون ثانية مع عبد الناصر، وحول ذلك يقول مام جلال في كتاب (من ذاكرة الرئيس مام جلال)، مايلي: (عندما عدنا من الجزائر التقينا عبد الناصر، وقال إنه درس الموضوع وقال لي بأنه موافق على الحكم الذاتي وحسب الشرح الذي قدمته له)، وهذا ما يؤكده أيضاً جمال الآتاسي في المقدمة التي كتبها لكتاب منذر الموصلي (عرب وأكراد- رؤية عربية للقضية الكردية)، حيث يؤكد بأن موقف جمال عبد الناصر من المذكرة التي قدمهاإليه مام جلال، هو: (كان عبد الناصر مرتاحاً لمضمون الفكرة التي وردت في المذكرة التي قدمها جلال طالباني باسم الوفد الكردي إلى مباحثات الوحدة الثلاثية في ربيع ١٩٦٣، والتي طالب فيها بالحكم الذاتي للكرد في العراق، أو جعل كردستان إقليماً ضمن الجمهورية العربية المتحدة أسوة بالعراق وسورية..).
ولم يكتف عبد الناصر بذلك فقط، وإنما صرح لمراسل جريدة لوموند الفرنسية (إيريك رولو)، وكما يذكره مام جلال في كتابه (كردستان والحركة القومية الكردية)، حيث يقول رولو: (لقد صرح عبد الناصر على إن الكرد شعب شقيق للعرب، وأعرب عن موافقته لإعطاء الكرد في العراق حكماً ذاتياً قريباً من المفهوم الذي شرحه له جلال طالباني في القاهرة، وأعلن معارضته للحرب كوسيلة لحل القضية الكردية..). 
وهكذا استطاع مام جلال عبر علاقاته تلك أن يؤثر في موقف الرئيس جمال عبد الناصر، لينسحب هذا الموقف على مواقف اتباعه ومناصريه في العالم العربي، وفي هذا المجال يقول الكاتب (سالار أوسي)، في كتابه (جلال طالباني: أحداث ومواقف)، ما يلي: (وبذلك نجح مام جلال، إلى حد ما، في فتح ثغرة في الجدار الفاصل بين الكرد والعرب، وأخرج القضية الكردية نسبياً من دائرة التجاهل العربي التام، ووضع بعض الفئات، وبعض النخب السياسية والفكرية العربية أمام حقيقة تفيد أنهم معنيون بهذه القضية وحلها، على الأقل من منطق حرصهم على مصالح أمتهم وتحقيق أهدافها..).

PUKMEDIA

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket