أيام في كردستان

الاراء 01:23 PM - 2016-02-11
أحمد أبو مطر

أحمد أبو مطر

وصلنا مساء الأحد الموافق الرابع عشر من نوفمبر الى مدينة السليمانية عبر الطرق التي حددها مرافقونا من قبل الإتحاد الوطني الكردستاني، متحاشين المرور بالمناطق التي تشهد أعمال عنف كمدينة الموصل، وتوجهنا الى مكان إقامتنا في فندق (السليمانية بالاس). كان يوم وصولنا اليوم الأول لعطلة عيد الفطر المبارك، فخلدنا للراحة من مشقة وعناء السفر ليومين متواصلين. في اليوم التالي، كان لقاؤنا الأول مع الزميل (مصطفى صالح كريم) نائب رئيس التحرير لجريدة (الإتحاد) اليومية الناطقة بالعربية بلسان الإتحاد الوطني الكردستاني، ومن اللحظة الأولى شعرت أن هذا الشخص قد قابلته مراراً من قبل، فالإبتسامة والبساطة لا تفارقه، بالإضافة لسحر وجاذبية إسمه..تخيلوا.. مصطفى..وصالح..وكريم.. لذلك كان يحلو لي مناداته: المصطفى الصالح الكريم!!! كما أنه يتكلم العربية بطلاقة.

وهذه الميزة عند غالبية الإعلاميين والسياسيين الأكراد الذين قابلناهم، من الأستاذ (مام)جلال الطالباني والأستاذ نوشيروان والعديد من الإعلاميين، على سبيل المثال فقط، الأساتذة: جوهر كرمانج، وفريد زامدار، وغالبية العاملين في القسم العربي للإعلام الذي يصدر يومية (الإتحاد) باللغة العربية، وميزة التحدث باللغة العربية، تجدها شائعة لدى الغالبية العظمى الحالية من الشعب الكردي، ورغم انها ميزة، الا أنها تكشف من وجه اخر عن تسلط وظلم، فما دامت القوميتان (العربية والكردية) تتقاسمان العيش في الوطن العراقي، لماذا كان مفروضاً على الكرد تعلم اللغة العربية، ليس في مدارس بغداد والمدن الأخرى، ولكن في محافظات إقليم كردستان ذاتها، في حين لم يكن مفروضاً على المحافظات العراقية العربية، تعلم اللغة الكردية؟ وهذه الحالة ليست في العراق فقط، فهي ظاهرة تسلط الأغلبية في العديد من الأقطار، ففي جزيرة قبرص، وقد عملت وعشت فيها، عانت من تسلط الأغلبية اليونانية، عبر فرض اللغة اليونانية على الأقلية التركية، فكان جميع القبارصة الأتراك يتكلمون اللغة اليونانية، بينما القبارصة اليونانين لايتكلمون ولايفهمون اللغة التركية، ومع زيادة التسلط والظلم، كان الأجتياح العسكري التركي لشمال قبرص عام 1974، حيث مواطن الأقلية التركية، وتم تقسيم البلاد بإعلان جمهورية شمال قبرص، الذي مضى عليه الآن اكثر من ثلاثين عاماً، وكنتيجة فإن وقف تدريس واستعمال اللغة اليونانية، نتج عنه جيل قبرصي تركي، لايعرف ولايتعلم اللغة اليونانية، مما يعني أنه بعد عشرين عاماً تقريباً، لن تجد مواطناً قبرصياً تركياً، يعرف اللغة اليونانية، إلا إذا سعى هو لتعلمها كلغة أجنبية، وأعتقد أن الوضع في إقليم كردستان سيكون مختلفاً قليلاً، بعد الإقرار الرسمي القانوني الدستوري لمسألة الفيدرالية كمطلب كردي، ففي هذه الحالة التي تعني تعايش متساوِ لقوميتين في وطن واحد موحد، يعني أن تكون اللغة الكردية هي اللغة الرسمية الأولى في إقليم كردستان، وتدرس اللغة العربية كلغة ثانية إجبارية، وفي القسم الفيدرالي العربي، تدرس اللغة العربية لغة رسمية، وبجانبها تدرس اللغة الكردية كلغة ثانية إجبارية، وهذا هو منطق التحضر والعيش المشترك بعيداً عن تسلط الأغلبية أو الأقلية، وهو منطق الدول والشعوب التي تسعى لطمر الخلافات والإقتتال، قافزة على أمور ومسائل شكلية، لايجعلها جوهرية سوى التعصب وشهوة الظلم والبغي.. وفي الحالة البلجيكية والكندية مثال حي وماثل لمن يريد أن يسير على طريق الشعوب المتقدمة. ففي كندا، اللغة الفرنسية هي الرسمية في إقليم كويبك، ولكن الإنجليزية تدرس معها، وبالتالي كل سكان الإقليم يتكلمون اللغتين بنفس المستوى، وفي إقليم تورنتو، اللغة الانجليزية هي الرسمية، ولكن سكان الإقليم يدرسون الفرنسية معها، وبالتالي كل سكان الإقليم يتكلمون الإنجليزية والفرنسية بنفس المستوى.. وأنظروا الفارق الحضاري بيننا وبين بلجيكا وكندا!!!.

 

زيارات ولقاءات في السليمانية

أول ما يلفت نظر الزائر الى مدينة السليمانية، هو الإزدحام في شوارعها النظيفة، والحركة في أسواقها المفتوحة على كل المنتجات من كل اسواق العالم، بما فيها المنتجات المحلية التي لاتقل جودة عن البضائع الغربية.. ولأن زيارتنا صادفت في أيامها الأولى إجازة عيد الفطر المبارك، فقد كان منظر الأطفال والنساء والرجال بملابسهم الكردية الفولكورية منظراً ينبئ بفرح كبير وعارم، خاصة كما فهمنا ممن سألناهم في شوارع السليمانية، أن هذه المظاهر وهذا الفرح لم يعيشوه سوى السنوات العشر الماضية عندما انحسر نفوذ المجرم صدام وعصاباته عن إقليم كردستان.. وزاد الفرح والإطمئنان بعد سقوط النظام بلارجعة، فزالت كوابيسه من أحلام الشعب الكردي، رغم أن نتائج ومظاهر جرائمه، لايمكن محوها من الذاكرة والحلم الكردي، كان منظراً مبهجاً، مئات الأطفال مع ذويهم يسرحون ويمرحون في مدينة ألعاب عصرية حديثة، عرفنا من زملائنا الإعلاميين الكرد، أنها أقيمت محل سجن من سجون الطاغية صدام..

وفي مدينة الألعاب لأطفال، يطلب منا مرافقونا تجميع اكبر قدر من الصبر ورباطة الجأش، فسوف نزور مبنى الأمن العام الذي كانت تستعمله شرطة ومخابرات الطاغية.. مبنى الأمن العام وما أدراك ما هو مبنى الامن العام؟!! بناء من خمسة او ستة طوابق، محاط بسور عال، وبجواره البيوت والفيلل التي كان يقيم فيها ضباط شرطة الطاغية ومخابراته. أعتقد ان هذا المبنى وما بداخله هو افضل مكان لتصوير أفلام الرعب والتعذيب.. زنازين السجن لاتزيد مساحتها عن متر ونصف عرضاً، ومترين ونصف طولاً، وفي أعلاها فتحة صغيرة لإدخال الهواء، وفي كل زنزانة كانوا يكدسون ما لايقل عن عشرة من المناضلين والسياسيين والمقاومين الكرد. أدوات التعذيب حدث دون حرج: من العصي الى أدوات الشبح الى أعلى الحديدية، إلى أدوات الكي الكهربائية، وخارج المبنى مازالت بقايا الدماء في  مجرور دموي طوله حوالي خمسة أمتار، حيث كانوا يخرجون السجناء بعد تعذيبهم، ليقرفصوا ويقذفوا الدماء التي تجمعت في حلوقهم وبطونهم من جراء الكي بالكهرباء أو تعليقهم لساعات من أرجلهم ورؤؤسهم الى الأسفل.. وفي ساحة المبنى، تم تجميع أدوات التعذيب، بجوار باقي دبابات ومدافع عصابة النظام التي تحصنت في المبنى عام 1991، وقد دارت معركة طاحنة، الى أن تمكن المقاتلون الكرد (البيشمركه) من إقتحام المبنى والقضاء على المجرمين الذين كانوا بداخله، وتحرير ممن كان بداخله من سجناء عرب وكرد، وأقولها بصراحة ووضوح، وليغضب من يغضب إن كانت الحقيقة تغضبه: إن ما شاهدناه في مبنى الأمن العام في مدينة السليمانية، وما سمعناه من أفواه السجناء الذين بقوا على قيد الحياة، أتحدى أن يكون في السجون والمعتقلات الإسرائيلية مثيلاً له!!! والجميع يسمعون ويقرأون عن إضرابات السجناء الفلسطينيين لتحسين أوضاعهم في السجون الإسرائيلية! هل كانت عصابات الطاغية تسمح بمجرد إحتجاج؟ ومن منّا لم يشاهد المناضل الفلسطيني (مروان برغوتي) في قاعة المحكمة الإسرائيلية يصرخ بالموت للمجرم شارون، دون أن يستطيع أفراد الشرطة الإسرائيلية ضربه او المساس به. هذه هي الحقيقة. وليست تسويقاً للإحتلال.. فالأحتلال مرفوض.. مرفوض!!!.

 

من مناظر الدم والتعذيب الى الشعر

في اليوم التالي، ربما شعر زملاؤنا الإعلاميون الكرد، بأن زيارة مبنى الأمن العام، تغم النفس، وتفقدك الشهية لكل شيء حتى الطعام، فأخذونا لزيارة مختلفة، لنرى ونصافح ونسمع الإبداع الكردي، فكانت زيارتنا للشاعر الكردي المعروف والمشهور (شيركو بيكه س). دخلنا مكتبه، فبادرنا بتحية شاعرية، لنعرف بعد ذلك أنه من مواليد مدينة السليمانية عام 1940، وكان والده أيضاً من الشعراء الكرد المعروفين (فائق بيكه س)، وكان شاعراً وطنياً في زمن الإحتلال البريطاني للعراق. أول ديوان نشره شيركو، كان بعنوان (وميض القصيدة) في بداية الستينيات، ثم توالت إصداراته الشعرية والإبداعية، التي بلغت أكثر من ثمان عشرة مجموعة شعرية باللغة الكردية، وقد ترجمت دواوينه الى العديد من اللغات: الأنجليزية، الفرنسية، الألمانية، الإيطالية، السويدية، المجرية، التركية، الفارسية، والعربية، التي أهدانا بها ديوانيه: (أنشودتان جبليتان) و(الصليب والثعبان، ويوميات الشاعر)، وسأحاول تقديمهما للقارئ العربي في مقالة قادمة خاصة أن الشاعر ممن ساهموا في حركة النضال الكردي بكافة أنواعه، بما فيه المسلح، وتعرض للملاحقة والنفي من موطنه كردستان الى مدينة هيت.. يقول الشاعر (شيركو بيكه س) في ديوانه (الصليب والثعبان) الذي هو (مقاطع من قصيدة روائية): 

بضعة أمثال لأبي حفره 

صليب قامتي على نفسه

أولاً:

سأسحب السماء الى الأسفل

وأنادي الرب الى الأرض 

كي أخبره:

ها هو الجحيم هنا 

وهنا سيصبح الفردوس واقعاً

هل كان الشاعر يحكي عن جحيم المجرم صدام! وما كان يتوقعه من فردوس بعد إنحسار نظامه عن إقليم كردستان، ثم سقوطه وزواله عن كل العراق؟!.

السليمانية مدينة عريقة.. أحتاج الى عدة حلقات إن أردت التحدث عن كل الأماكن التي زرناها: المكتبة الوطنية العامة مدهشة بأقسامها الكردية والعربية، وبقسم الكومبيوتر، حيث يوجد في صالة واحدة خمسون جهاز كومبيوتر مفتوحة على مدار الساعة للإستعمال المجاني لكل زائر بدون اية قيود أو تساؤلات.. أما المحيط الجبلي المرتفع المحيط بالمدينة، فليسأل عن جماله وأشجاره زميلنا الأستاذ (المصطى الصالح الكريم) الذي رافقنا وصعد بنا عدة مرات، شارحاً ومفصلاً، على حساب وقته وعمله، وفي كل مرة، يقول لك: الله بالخير!، فيسأل زميل مصري: الله ..هو جرى لله حاجة، ويسألني عن الوضع السياسي ووجود قوات التحالف وهل هناك فتح لجبهات جديدة، فأجيبه: العلم عند الله، ولكن النكتة السورية تقول:

عامل سوري، يعمل في بغداد وتصادق مع جندي من المارينز، وقرر يوما العودة الى سوريا نهائياً، وأحتاج مبلغاً من الدولارات، فسأل صديقه جندي المارينز: هل تعطيني سلفة خمسمائة دولار؟. فأجابه الجندي: مستعد أن أسلفك ألف دولار، ولكن كيف ستعيدها لي؟ فأجابه المواطن السوري مندهشاً: شو.. إنتو مو جايين على الشام؟!!!

ويسألك أخبار مصر إيه، فأجيبه بقصة حقيقية حصلت معي شخصياُ في أكتوبر من عام 2003، عندما كنت أشارك في ندوة الإبداع الروائي العربي بدعوة من المجلس الأعلى للثقافة في مصر، أخذت سيارة أجرة، وطلبت من السائق أن يوصلني الى العتبة. كان يقود السيارة، ويتطلع لي في المرآة، وفجأة سألني: بيه أنا شايفك فين؟ فأجبته: ما أظنش شفتني قبل كده!. قال: حضرتك بتشتغل ايه؟. أجبت: صحفي، فقال، إذن ده أنا شايفلك صور في الجرايد، وفجأة أوقف السيارة على اليمين بعصبية أخافتني، وتطلع لي سائلا: فيك تقوللي، الأمريكان، راحوا بغداد ليه.. ليه ما أجوش الأول هنا.. عندنا في مصر!

ويطول الحديث .. وللحديث بقية!

 

 

 د. أحمد أبو مطر*  كاتب وأكاديمي فلسطيني/صحيفة الاتحاد البغدادية

 

ا

شاهد المزيد

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket