مريم اليوم و (هاوناز )الأمس

الاراء 05:34 PM - 2015-09-02
مريم اليوم و (هاوناز )الأمس

مريم اليوم و (هاوناز )الأمس

بعد سبعة وعشرين عاما تعود هاوناز المفقودة الى أحضان عائلتها
حين يتجرد المرء عن نوازعه الأنسانية و يخرج عن طورها و يتحيون أي يعود الى حياته البدائية حين كان ينازع الحيوانات الوحشية مستخدما براثنه و أنيابه, شأنه في ذلك شأن تلك الحيوانات الضارية منشبا مخالبه وانيابه في جسد فريسته تمزيقا و تقطيعا, يتحول هذا الأنسان الذى خلقه الله تعالى في أحسن تقويم الى كائن أكثر ضراوة من أوحش الوحوش ينهش جسد ضحيته و يكسر عظامه, أى يصبح في هذه الحالة بعثيا لا يتورع عن اقتراف أشد الجرائم خسة و دناءة . و قد أثبتت الأحداث التي مر بها الشعب العراقي بعد إنقلابي الثامن من شباط 1963 و17تموز1968 من خلال الجرائم التى اقترفها البعثيون أنهم أكثر وحشية من كل الضواري التي نعرفها على وجه البسيطة و أظهرت الممارسات الوحشية اللاحقة و الجرائم البشعة التى اقترفوها بأساليب بعيدة عن الإنسانية صحة ما ذهبنا إليه, وفي مقدمتها جرائم قصف كوردستان بالأسلحة الكيمياوية و عمليات الأنفال بحق الضعفاء بتغييب أكثر من مائة و ثمانين ألفا من النساء و الأطفال و الشيوخ, وستظل جريمة قصف مدينة حلبجة الآمنة وصمة عار فى جبين البعثيين المجرمين .
جاوز شهر آذار منتصفه بيوم واحد أي في السادس عشر منه عام 1988 والحرب العراقية الإيرانية التى أشعلها صدام التكريتي لاتزال دائرة تفتك بأبناء الشعبين و تحرقهم في أتونها, و الشتاء على وشك الرحيل تاركا برده وجليده وراءه مخليا موقعه للربيع المطل على الطبيعة التي أخذت زينتها بأجمل الأشكال و أحلاها و تجلى الترحيب بالربيع بالبساط للسندسي الأخضر الذى بسطته الطبيعة لأستقبال عروس الفصول الذي يبشر ببعث الروح في الطبيعة الكورستانية الخلابة, و أخذت النسائم العليلة تهب بلطف و ليونة وتنحني ذوائب الأعشاب الطرية الندية إجلالاً لجمال الطبيعة الذي أضفاه الله سبحانه تعالى على كوردستان, هذا الجمال الذي بهر حتى أقسى القلوب و هو قلب الطاغية صدام التكريتي الذي قال وهو واقف منبهر أمام حفرة مليئة بماء صاف عذب و بجانب الحفرة وردة (شلير) فقال صاغرا وهو مبهوت أمام هذا الجمال الأخاذ" كوردستان جنة الله على الأرض" .اختلط خرير المياه العذبة بشدو الأطيار و تغريدها محلقة في السماء تارة, و مطاردة بعضها البعض تارة أخرى حاطة على أفنان الأشجار المتمايلة بفعل النسائم الهابّة بلطف و ليونة, و أبناء الشعب الكوردى آخذون أهبتهم لأستقبال الربيع و عيد نوروز و الأحتفال به و أداء مراسيمه بطرقهم الخاصة رغم الحظر الذى كثيرا ما كانت الحكومات العر اقية المتعاقبة تفرضه على الإحتفال به . و هي ذات المنطقة التي أبى أبو عبيدة الجراح تركها حين طلب منه الخليفة عمر بن الخطاب (ر.ض)العودة, فرد عليه : و كيف لي أن أترك الجنة التى وعد الله بها عباده المتقين الصالحين, إن تلك الجنة هي على هذه الأرض التي تطلب مني تركها, إنها جزء من سهل شاره زور المشهور تأريخيا الممتد حتى يعانق مدينة حلبجة و ضواحيها تطل عليها جبال شاهقة تكلل الثلوج قممها الشامخة وتزينه الأزاهير البرية وحقول النرجس تتراقص عليها لآلئ الندى عاكسة بريق أشعة الشمس كأنها عروس تزين جيدها بدرر قطرات الطل فتضفي عليها جمالا على جمال .
كان سكان مدينة حلبجة يجهلون مايخبئه لهم القدر على يد البعثيين المجرمين ..على يد علي حسن المجيد ( علي الكيمياوي)و بأوامر من صدام التكريتي بإبادة الشعب الكوردى بالأسلحة الكيمياوية المحرمة دوليا و إنسانيا و التى سبق للنظام أن جربه في مناطق أخرى في كوردستان دون أن يجد الكورد من يغيثهم و ينجدهم لردع البعثيين البرابرة و الحيلولة دون تنفيذخطتهم الأجرامية و التي جربها النظام على مرأى و مسمع من العالم المتحضر في جبهات القتال ضد الجيش الأيراني . غير أن هذا العالم, رغم علمه بذلك وتأكده منه, كان يتصامم و يتعامى أمام هذه الجرائم البشعة, لذا أفرط النظام البعثي الفاشى فى ممارسة أقصى درجات القسوة إزاء الضعفاء و من لاقدرة لهم على الدفاع عن أنفسهم . و حين وجد أن العالم لايحرك ساكنا إزاء مايرتكبه من جرائم لأيقافه عندحده سدر في غيه و تمادى في الإجرام فاستخدم السلآح الكيمياوي ضد العزل الأبرياء من أبناء الشعب الكوردي في مدينة حلبجة الآمنة . أيقظت هذه الجريمة النكراء الغفاة من بني البشر في العالم, غير أن ذوى الضمائر الميتة لم يتحرك لهم جفن و لم يوقظهم وخز هذه الجريمة النكراء من قبل عصابات (الغوستابو والأس أس ) البعثية, وآثر الكثير منهم السكوت وإغماض العين إزاءها حفظا منهم على مصالحهم التجارية و صفقات النفط المبرمة بينها و بين النظام التى تدر عليها ملايين الدولارات وهذا ما لايمكن التضحية بها, لأن المصالح تأتي أولا ولتذهب المبادئ الى الجحيم . إن الثروة النفطية التي تستخرج من أرض كوردستان يقتني بها النظام أشد الأسلحة الحديثة فتكا و دمارا و أسقطها على رؤوس العزل و الأبرياء من الشعب الكوردى دون رادع من إنسانية و وازع من ضمير .
كانت الطائرات الحربية العراقية أخذت تحوم على المنطقة قبل ذلك بيومين أو ثلاثة, غير أنها كثفت طلعاتها في يوم 16/3/1988 على حلبجة و ضواحيها فلاذ السكان بالملاجئ دون أن يدروا ما يبيته لهم النظام الفاشي من غدر و قساوة . و في حوالي الساعة الحادية عشرة أخذت الطائرات المغيرة تمطر مدينة حلبجة الآمنة بوابل من قنابلها الكيمياوية للإجهاز على كل ذي روح فيها من إنسان و حيوانات و طيور, و لم تسلم حتى النباتات من السلاح الكيمياوي التي بدأت أوراقها بالذبول كأني بها تسبل دموعها على ضحايا جريمة البعثيين . و إختلطت صيحات الناس رجالا و نساء الذين استبد بهم الذعر و الهلع باحثين عن فلذات أكبادهم فسقط البعض منهم و هم يحتضنون أطفالهم و أسلموا الروح و هم على هذه الحالة شاكين الى الله سبحانه و تعالى البعث الصدامي و جرائمه البشعة التي إرتكبها هذا النظام الدموي ضد شعبه . ففي الوقت الذي كان صدام التكريتي يقول "شعبنا الكردي" أخذ يمطر شعبه الكوردي بالأسلحة الكيمياوية المحرمة دوليا . و سرعان ما انتشرت صورة (عمر خاوه ر) وهو يحتضن ولده الوحيدالذي ولد بعد ثلاث بنات ليقيه من الموت, و لكن الموت خطفه هو و وحيده . كان ذلك اليوم كيوم الحشر كما يقولون, إذ كان السكان يركضون هنا و هناك هائمين على وجوههم لايدرون ماذا يفعلون و إختلطت صيحات الأمهات وهن يبحثن عن اطفالهن و الرجال يحاولون ايجاد السبل التي تقود الى تخليص أطفالهم و عوائلهم من المحنة التي أوقعهم فيها نظام البعث الصدامي فسقط البعض على وجوههم و هم يحتضنون أطفالهم فأسلموا الروح و هم على هذه الحالة رافعين شكواهم الى الباري عز و جل على هذه الجريمة النكراء التي إرتكبها هذا النظام الدموى ضد شعبه . كان صدام المجرم يقول "شعبنا الكردي" غير انه ضرب شعبه بالسلاح الكيمياوي دون أن يرف له جفن . و سرعان ما ملأت صورة (عمر خاوه ر) صفحات الصحف العالمية, ذلك الوالد الذي احتضن ولده الوحيد الذي ولد بعد ثلاث بنات لعله يقيه من الموت الذى يتربص بأبناء المدينة دون تمييز. إختلطت صيحات الضحايا كبارا وصغارا وبكاء الأطفال العاجزين عن السير و قد عميت عيونهم لا يرون شيئا وهم يتراكضون هائمين على وجوههم و سلك القادرون على الحركة طريق الحدود الإيرانية . و خلآل هذا الفرار الجماعي ضاع كثير من الأطفال و فقد الكثيرون فلذات أكبادهم و هم يبحثون عنهم الى يومنا هذا, فلجأوا الى الدموع السخينة يذرفونها على الأحبة المفقودين لا يعلمون هل هم أحياء أم أموات .
بعد مضي سنوات من الترقب و الأنتظار, ظهر أحد هؤلاء المفقودين قبل خمس سنوات . طهر علي الذي أثبتت تجارب الحمض النووي أنه (زمناكو) وقرت عينا والدته به, ولكن والده كان قد استشهد من جراء القصف الكيمياوى , والذي اعتبر هو الآخر شهيدا وكتب إسمه على شاهد أحد القبور, وبعد العثور عليه و عودته الى ذويه مسح اسمه على شاهد القبر .
و آخر طفلة مفقودة عادت الى مدينة حلبجة الشهيدة و فرح بعودتها ذووها كانت مريم . عادت مريم و هي فتاة مكتملة النضوج و في حوالى السابعة و العشرين من عمرها باحثة عن أهلها الذين فقدوها و هي في السنة الأولى من عمرها . عادت قبل عدة أشهر لعلها تعثر على ذويها و هي لاتعرف كلمة كوردية واحدة, إذ تبنتها عائلة إيرانية و ر بتها . غير أنها علمت و هي تخالط قريناتها من الفتيات أنها لاتمت بصلة الى هذه الأسرة . و بعد أن شبت عن الطوق إستحلفت من تسميه والدها بالمصحف الشريف أن يخبرها عن حقيقة أصلها و نسبها. و بعد إكمالها التعليم الجامعي أصبح البحث عن ذويها الذين فقدوها و فقدتهم شغلها الشاغل .. وبناء على ذلك عادت قبل حوالي أكثرمن شهرين طامعة في مساعدة المعنيين في حكومة إقليم كوردستان للعثور على ذويها. و بعد تلكؤ غير مقصود دامت فترة للتأكد من النتائج الدقيقة لفحص الحمض النووى (DNA )لذوي الأطفال المفقودين . و خلال تلك الفترة و قبل إعلان النتيجة كانت مر يم تزور بعض العوائل التي فقدت بناتها و كل عائلة تتمنى أن تكون مريم هي ذات الطفلة التي فقدتها و يرافقها في كثير من هذه الزيارات الشاب زمناكو( علي الأمس) و هو ينظر الى العوائل التي يزورونها وأفرادها يذر فون الدموع مع زمناكو و يطلقون الزفرات الحرى, حتى ا، بعضا من تلك العوائل كانت تؤكد على استعدادها لأتخاذها إبنة لها حتى لو لم تكن هي ابنتهم التي يبحثون عنها . تجمع جمع غفير في إحدى القاعات في مدينة حلبجة في جو مثير للترقب و الإنتظار والعواطف الجياشة, وكل عائلة تنتظر بفارغ الصبر إعلان النتيجة . و في غضون ذلك كانت الفتاة مريم واقفة بجانب الطبيب الإخصائي بفحص الحمض النووي الدكتور فه رهاد الشيخ معروف البرزنجي نجل الشهيد الشيخ معروف الذي اعدمه البعث مع أخيه الشيخ حسين البرزنجي مع ستة و عشرين مناضلا آخرين عام 1963.كان الحاضرون حابسين أنفاسهم في إنتظار ماسيعلنه الطبيب المختص و عيونهم مشدودة الى مريم . فقام الطبيب فه رهاد البرزنجي و بعد أن قدم شكره و تقديره لكل الذين قدموا له العون في مساعيه لأجل إماطة اللثام عن نسب الفتاة الحائرة و هي تجيل ببصرها بين الحاضرين و لاتعرف من من هؤلاء النساء ستكون أمها وأي رجل من هؤلاء الرجال سيضمها الى صدره الحنون للتعويض من كل سنوات الحرمان هذه . هنا وجه الطبيب اليها نظره قائلا : أنت لست منذالآن مريم بل أنت الآن (هاوناز) و هو إسمك الحقيقي. و هنا أأطلقت إحدى النساء " طيلاس أسكندر " صرخة فجرت العواطف المكبوتة لدى الحضور, و تعالى صوت البكاء و النحيب, بكاء و نحيب العوائل التي خيبت نتائج الفحوصات آمالها, ولكن كانت فرحة الوالدة التي استشهد زوجها بالسلاح الكيمياوي وأقارب هاوناز فوق الوصف لأن الله قد أعاد إليهم فتاتهم المفقودة منذ أكثر من سبعة و عشرين عاما . يالها من سعادة غامرة , سعادة لاتوصف وهي أكثر إثارة من ولادة طفل , لأن الأول مر تقب حدوثه غير أنه في حالة هاوناز فإنه يتمثل في ولادة الأمل بعد اليأس. ويقول الدكتور فه رهاد البرزنجي أن خمسة مفقودين آخرين في طريقهم للعودة الى أرض كوردستان و الأستبشار بالعثور على ذويهم . ولكن إجراء الفحوصات المختبرية لعوائل المفقودين و المفقودات و مقارنتها مع الحمض النووى للعائدين ربما يؤخر نوعا ما إعلان النتائج التي تنتظرها تلك العوائل بفارغ الصبر و أتمنى أن تكتمل فرحتنا و فرحة تلك العوائل بأسرع وقت ممكن .

عبدالكريم شيخاني

شاهد المزيد

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket