العلمانية وحرية الضمير

الاراء 09:36 AM - 2015-09-01
خالد سليمان

خالد سليمان

حاولت الجالية المسلمة في كندا عام ٢٠٠٧ تأسيس محاكم شرعية خاصة بها، وذلك من خلال مراكزها ومنتدياتها الثقافية والاجتماعية الجاليوية. الجالية اليهودية من جانبها أغلقت أبواب المدارس الخاصة بها أمام أطفال غير اليهود. وفي العالم ذاته فتحت فرنسا الباب أمام سجال كبير حول الدين والسياسة بعدما أقرّ البرلمان الفرنسي منع النقاب في الأماكن الرسمية، ودفعت انفجارات عام ٢٠٠٥ في ميترو الأنفاق في لندن الحكومة البريطانية إلى إعادة التفكير بمناهج التربية في ما يخص أطفال الجاليات المسلمة وسبل اندماجهم بالمجتمع البريطاني وإبعادهم عن التطرف. في الفترة ذاتها أشعل قتل الفنان الهولندي تيو فان غوغ على يد متطرف من أصول مغربية ونشر رسوم كاريكاتيرية عن رسول المسلمين موجة عنف غير مسبوقة في العالم الإسلامي والغربي.
وقد ارتبط وصول حزب العدالة والتنمية الإسلامي في تركيا إلى السلطة وفتح باب نقاش واسع عن النظام العلماني في البلاد بذات الفترة التاريخية التي اصبحت فيها إعادة صياغة السؤال الفكري عن العلمانية الـشغل الشاغل في الجامعات الغربية، ولا ننسى بطبيعة الحال انفتاح هندي ملحوظ في ما يـخص التسامح الديني وفصل الدولة عن دين “الغالبية”.
أدت كل تلك الأحداث والتحولات إلى إعادة النظر في العلاقة بين الدين والدولة في الأوساط الفكرية والأكاديمية في أوروبا وشمال أمريكا. وقد قامت حكومة مقاطعة (كيبيك) الفرنسية بتشكيل هيئة خاصة برئاسة الفيلسوف الكندي المعروف تشارلز تايلر وبعضوية المفكر جوسلين ماكلر لدراسة التنوع الثقافي والعرقي والديني في المجتمع الكندي (الفرنسي) وسبل المحافظة على التنوع الثقافي وتنمية التجربة الكندية. سميت تلك اللجنة بـ”التسوية المعقولة” وكان نائب رئيس اللجنة المؤرخ والمفكر الإجتماعي الكندي جيرار بوشار.
الآلاف من الصفحات والتوصيات التي جمعهتا لجان هيئة “التسوية المعقولة” في جميع المدن والبلدات والقرى التابعة لمقاطعة كيبيك الفرنسية في كندا، إضافة إلى الأحداث السياسية والأمنية في العالم، دفعت كل تشارلز تايلر وجوسلين ماكلور لإعادة النظر في أسس بناء الدولة و دراستها وفقاً لأحداث وتحولات اجتماعية و ثقافية بعيداً عن ثوابت نظرية فكرية فيما الدولة. بعد ثلاثة أعوام من أعمال تلك الهيئة الكندية التي خلقت سجال سياسي وثقافي واجتماعي داخل المجتمع وقنوات الإعلام والأوساط الأكاديمية، نشر كل من تايلر وماكلور كتاباً بعنوان (العلمانية وحرية الضمير) عن دار بوريال في مدينة مونتريال عام ٢٠١٠. كان الكتاب كما يشير الكاتبان في المقدمة، نتاج معلومات وأحصائيات ميدانية، ذاك ان تلك الأحداث والتحولات في كندا والعالم، كانت نتيجة مشكلات لم تجد لها الأنظمة الثابتة في أوروبا وأمريكا حلولاً. تالياً، انها بحاجة إلى تفكير فلسفي و سياسي من شأنه طرح حلول جديدة لواقع جديد وتطوير نظام الحكم. يترك الكاتبان التعريفات الكلاسيكية المتمثلة بحصر العلمانية في فصل الدولة عن الدين، ذلك انهما إذ يتناولان العلمانية كنظام سياسي وقانوني يستند إلى فضاءات من القيم والأهداف والإجراءات بين الدين والدولة، فالوقت حان برأيهما للحديث عن تلك العلاقة التي تفصل وتربط الدين بالدولة بشكل أوضح ومختلف. من جملة تلك النقاط التي يتناولها تايلر و ماكلور، هي الفضاء العام والفضاء الخاص والعمل على ترميم العلاقة بين الدين والفضاء الخاص، أي قطاعات الدولة. لا تعني العلمانية بالنسبة لهما، فصل الدين عن الدولة، بل حياد الدولة “Neutralté de l’État” المتمثل بفهم تنوع قيمي يجمع المواطنين في دائرة واحدة. وهذا لا يعني بطبيعة الحال جعل الدين وقيم الغالبية في المجتمع هوية الدولة و وضع المجموعات الإجتماعية والدينية الأخرى مواطنون من الدرجة الثانية، وإن حدث مثل هذا الشيء، تختل العدالة الإجتماعية والوحدة السياسية في مجتمع متنوع في الهوية والدين والثقافة، وسيكون عبئه ثقيل على الجميع. تالياً، على الدولة ليس الحفاظ على الحيادية حيال الدين فقط، بل حماية التنوع الديني والثقافي أيضاً، ذاك انه، أي التنوع الثقافي، حاجة أخلاقية، يمارس فيه المواطنون الحياة وفقاً لمعتقداتهم وقيمهم المختلفة ويصنعون مجتمع متجانس.
ان تنوع الأخلاقيات في المجتمع إذ يحتل مساحة مهمة في الفلسفة المعاصرة، يقترب من الفروقات الجوهرية والمعقدة بين المواطنين مثل التطور العلمي في مجال الجينالوجيا والتعليم الديني في المدارس وتحليل الدولة للاقتصاد...الخ. يعود الكاتبان هنا إلى وجهة نظر فلسفية للمفكر نظرية العدالة الاجتماعية الأمريكي جون راولز (١٩٢١-٢٠٠٢) ، مفادها ان “التنوع المعقول” إذ يعتمد مصادر عقلانية للاعتراف به حول الوجود وطبيعة التطور الإنساني ومعاني الحياة الناجحة. وهذا المفهوم إذ يستلزم استقلالية الأفراد والأخلاق لإدراك العالم، لا ينمو بحياد الدولة، ذاك ان الأفراد والمجتمع في هذه الحالة، بحاجة إلى التنوع وآليات التنمية وحماية حريات التعبير والضمير إذ تلعب الدولة الدور الرئيسي في توفيرها، إنما لا يعني ذلك في جميع الأحوال تدخل الدولة في شؤون المواطنين ومساحات حرياتهم وقيمهم الثقافية والدينية.
في نهاية أي عنوان، نسأل ما هي الحياة الناجحة التي تليق بنا؟ للإجابة عن هذا السؤال، وفي سياق الحديث عن العلمانية وحرية الضمير، يرى كل من تايلر وماكلور، بأن حياد الدولة حيال القيم المغايرة والإيمان والاستخطاط هو جزء من الأجوبة التي يقتضيها بحثهما. وهذا الحياد واحد من أسس الدولة الليبرالية الديمقراطية بعيداً عن سياسات التضييق على الكرامة وحقوق الإنسان والاستقلال المجتمعي، وفيه، الاختلاف القيمي، ذاك انها قيم تسمح للأفراد بحياة مشتركة من خلال رؤى مختلفة واحترام التنوع ، كما انها تجعل منهم مستقلين في قراراتهم، إنما هم شركاء في القيم. كل ذلك في إطار “إجماع في التداخل” كما يسميانه..
يتميز المجتمع برؤى كثيرة ومتعددة، وان لم يحدث الإجماع في تداخل في دائرة تلك الرؤى المتعددة، على الدولة الحفاظ على الحياد وعدم إعطاء الأولوية لرؤية وحياة مثالية من شأنها تغيير حياة الأفراد على حساب قيمهم المختلفة. تالياً، على الدولة الحفاظ على حيادها حيال قناعات وتمسك الأفراد بقيمهم وثقافاتهم المتنوعة، ولا يشمل هذا الحياد الديني فقط، بل يشمل القناعات الفلسفية والفكرية. أي ان الفلسفة التي تجعلها الدولة أساساً لسياساتها على حساب فلسفة أخرى، لا تختلف عن جعل الـدين مصدراً لتشريعاتها على حساب دين آخر. اقتضاباً، يقف كل من تايلر وماكلور، ضد صناعة دين أو فلسفة من الدرجة الثانية، ويعودان في هذا الإطار لتحديد وتوضيح فكرتهما إلى تسمية أو إصطلاح “دين مدني” وهو إصطلاح يرجع للمفكر الفرنسي جاك جاك روسو.
وفي هذا السياق يؤكد المفكران الكندييان على فصل مفهومي العلمانية والمدنية، أي فصل نظام سياسي علماني عن مجتمع مدني. في الحالة الأولى تكون الدولة حيادية تجاه الأديان والفلسفات والأفكار، أما في الحالة الثانية فيمتزج الدور الديني بالممارسات الاجتماعية وحياة الأفراد. إذا كانت العلمانية عملية سياسية وتتجه إيجاباً في مسارها، فإن المدنية هي ظاهرة اجتماعية تجسد رؤى وأساليب حياة الأفراد، أي ان الدولة تتجه نحو العلمانية دون فرضها على المواطنين و رؤاهم وقناعاتهم.
حماية العدالة واستقلالية المواطنين، بينهم المتدينون وغير المتدينين، واحد من أعمدة الدولة العلمانية، دون ان يفرض الحاكم مذهبه ودينه وإيمانه على الناس. اختصاراً، ليست العلمانية فصل الدين عن الدولة أو إخراج الدين من الفضاء العام، بل هي نظام يستند إلى تعددية المفاهيم والوظائف من الصعب فصلها عن بعضها، تحترم فيه الدولة الجميع، لا تميز بين المواطنين وتحمي حرية الضمير. وفي هذه الأخيرة، هناك اتجاهان، واحد يرتبط بـ”نية” الدولة العلمانية في ما يـخص حماية التنوع والتعددية والدين والأخلاق والثقافة، وفضاء عام يتسع للجميع. فإذا ربطت الدولة نفسها بدين أو فلسفة معينة تفقد مصداقيتها. الاتجاه الثاني هو آليات تنظيم هذا النظام الذي تقتضيه العلمانية.
إن احترام الجميع في هذا النظام يستلزم ابتعاد الدولة عن دين أو فلسفة على دين أو فلسفة أخرى. نحن لا نستطيع الحديث عن حرية الضمير دون التسامح واستقلالية الأفراد والنخب الدينية والفكرية والاتجاهات المختلفة بينها، وإصلاح العلاقة بين الرجل والمرأة. أي اننا لا نستطيع ربط العلمانية بشكل عقائدي بفصل الدين عن الدولة وتجريدها من خصائصها الأخرى.
وفقاً لتشارلز تايلر و جوسلين ماكلور، إذا نظرنا إلى التجربة الكندية في ما يـخص التعددية وحياد الدولة حيال الدين والتعددية الثقافية وحرية الفكر والكلمة والضمير، فإن فصل الدين عن الدولة هو الآلية وليس الهدف، ذاك انها - أي العلمانية- هي تطور للنظام السياسي وفق الإيمان بالعدالة للجميع، والتقاء الحرية الدينية بحرية الضمير كسند لحياد الدولة تجاه الرؤى المغايرة في مجتمع متعدد. ان اكتمال مشروع فصل الدين عن الدولة، أو حياد هذه الثانية حيال الدين احتل مساحة أكبر من احترام حرية الضمير عند الأفراد في الفكر السياسي، وتركز السجال المجتمعي في آليات تنظيم الدولة العلمانية بدل تلك القيم التي ذكرت..
قصارى القول، ان رؤية القسم الكاثوليكي الكندي، أي مقاطعة كيبيك الفرانكوفونية، قريبة من العلمانية الفرنسية إذ تيهمن فيها آليات تنظيم شؤون الدولة على أهداف وفلسفة العلمانية ذاتها، وذلك من خلال حماية فصل الدولة عن الدين دون التحقق من حضور ميراث مسيحي في نظام عمل الدولة. هناك مناسبات وقيم دينية كثيرة حاضرة ليست في الفضاءات العامة، بل في الفضاءات الخاصة أيضاً، حتى في النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، والأعياد الدينية خير دليل على ذلك.
مقابل هذه السياسة حيث تحل فيها الإجراءات محل فلسفة العلمانية، هناك سجال كثير في فرنسا والقسم الفرنسي في كندا حول العلمانية ومفاهيم الحكم..
إن النقطة الأبرز في هذا السجال تبدأ من مراجعة التعددية الثقافية والعرقية إذ زعزعت القيم الدينية والثقافية السائدة في المجتمع.

خالد سليمان

شاهد المزيد

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket